المحامي وقضية (الميركافاة).. قصة من وحي المعركة
klyoum.com
أخر اخبار فلسطين:
الأونروا : لم يسمح لنا بإدخال أي مساعدات إلى غزة منذ 6 شهورفي لَحظةٍ فارقةٍ بينَ الحياةِ والموتِ، وقفَ عبدُ اللهِ شامخًا كالجَبَل.
الدبّابةُ تَقتربُ، وهو يُحاوِلُ إصلاحَ العَطَبِ الّذي أصابَ راجِمَةَ "الياسين (105)"، يداهُ تَعملان بما يَشتعِلُ في عقلِه. خَطَرُ الانسحابِ تَسلَّلَ إلى جَبهَتِه المَعْنَويّة.
ــ أيُّها المُحامي الأشَمُّ، أنتَ الآنَ أمامَ أعظمِ قَضيّةٍ خُضتَها في حياتِك، فهل تَنسحِب؟!
ولكنها الدبّابةُ الكاسِحةُ "الميركافاه" تُسرِعُ الخُطى باتّجاهِك، الجُنزيرُ المُصَهْلِلُ وكُتلةُ الحديدِ الهائلةُ المُتَدَحرِجةُ يَأتون نحوَك. والحربُ كَرٌّ وفَرّ، فما يَضيرُك لو انسحَبتَ الآن؟
تَخيَّلَ نفسَه في قاعةِ المحكمة: النائبُ يُلقي بثِقْلِ باطِلِه في وجهِه دَفعةً واحدةً، فيُقرِّرُ الانسحاب... هذا لا يَحدُثُ أبدًا!
قَضيّةُ اليومِ فُولاذيّةٌ مُدمِّرة؛ وَحْشُ القتلِ والخَرابِ أمامَ أُستاذِ العَدلِ والقَضاء. فأينَ المَفرّ؟! لا بُدَّ من مُعالجةِ هذا الباطلِ العَرْمَرِمِ بسَيفِ الحقِّ الساطع. الرَّدُّ لا يكونُ إلّا بالياسين (105)، ولكنَّ الزِّنادَ لا يُشعِلُ فَتيلَ الانطلاق... أُسقِطَ في يَدِه، والدبّابةُ تَقتربُ، وبيتُ النّارِ لا يَشتعلُ.
يومَ القَسَمِ بعد أنِ اجتازَ اختباراتِ مُزاولةِ مِهنةِ المحاماة، قرَّرَ قَرارًا جازمًا ألّا يُدافِعَ عن ظالمٍ، وأن يَستميتَ في الدِّفاعِ عن المَظلوم. مَعادلةٌ سألَ اللهَ من أعماقِه ألّا يَحيدَ عنها أبدًا. وبِناءً عليها كان يَعتذِرُ عن كثيرٍ من القَضايا، ويَنصَحُ أصحابَها أن يُعيدوا الحقوقَ إلى أصحابِها، وأنَّ الدُّنيا وما فيها لا تَستَحِقُّ لَحظةً من لَحظاتِ يومِ القيامة، حيثُ لا يَنفَعُ فيها النَّدمُ ولا يَستطيعُ الإنسانُ الرُّجوعَ لتَصحيحِ الخَلَل.
سارت به حياةُ المحاكِمِ بين كَرٍّ وفَرّ؛ يَفِرُّ من خَنقَةِ المحاكمِ إلى معسكراتِ التدريبِ والخنادق. في المحاكمِ "مُكرَهٌ أخاكَ لا بَطل": تُمَارسُ حياةَ تدبيرِ مُتطلَّباتِ العَيشِ الكريم، حيثُ تُوفِّرُ الأولى وتَضيعُ الثانيةُ وأنتَ تَنظُرُ إلى ذاكَ المُحتلِّ الغاصِبِ لفِلسطين، والمُحاصِرِ للّذين آوَتهم غَزّةُ بعدَ اللجوءِ والتَّهجير. وهُنا، في المعسكر، مُتطلّباتُ حياةِ الحُرّيّة، وتَحقيقُ السِّيادة، والبَحثُ عن الكَرامةِ الهارِبة.
عبدُ اللهِ خليلٌ من العاشقين للحُرّيّة، والتوّاقين لحياةٍ كريمةٍ لا ذُلَّ فيها ولا هَوان. لِذلكَ انتَمَى إلى كَتائبِ عزّ الدّين القسّام، وأصبَحت قُرَّةَ عَينِه وراحةَ بالِه حينَ يُواصِلُ عملَه بعدَ الانتهاءِ من دَوامِه في الكتائب. خاضَ غِمارَ التدريبِ واستَوى على سُوقِه قَسّاميًّا مُحترفًا يُتقِنُ الرَّميَ وصِناعةَ المُتفجِّرات. ومَضَت عشرُ سِنينَ وهو يَرتقي في اكتسابِ المَهارات. أوّلُ حربٍ خاضَها كانت مَعرَكةَ "سيفِ القُدس"، وفي حينِها كانت طَويلةً.
تزوَّجَ وعاشَ في كَنفِ أسرةٍ جميلةٍ سعيدة، لا يَنقُصُها شيءٌ من مَتاعِ هذه الدُّنيا: زوجةٌ صالحة، رَفاهٌ وبَنين، سيارةٌ وشقّةٌ وعمل. ومعَ هذا كان مَلاذُه هناك، في مَعاقلِ الرِّجالِ حيثُ تُصنَعُ الحُرّيّةُ ويُرسَمُ المُستقبَلُ المُشرقُ الخالي من الاحتلال.
وكان يومُ السّابعِ العظيمِ من شهرِ أكتوبر. وصلَته رسالةٌ مُشفَّرةٌ قبلَ ساعةِ الصِّفرِ بنصفِ ساعة. نصفُ ساعةٍ فَصَلَت بين حياةِ السِّلمِ وحياةِ الحرب، بين الدَّعَةِ والسَّكينةِ ورَغَدِ الحياة، وبين ويلاتِ الحربِ والقِتال. فَزِعَ إلى سلاحِه وعَتادِه، والتحَقَ حيثُ صُفوفُ المُجاهدينَ المُتأهِّبين كالأُسودِ التي تَترقَّبُ فَريستَها. وكان العُبورُ مُوفَّقًا حسبَ الخُطّة، وكانت النّتائجُ عظيمةً؛ حيثُ انهارت الفرقةُ الخامسةُ المُكلَّفةُ بحمايةِ مُستَوطَناتِهم الحُدوديّة مع غَزّة. دخَلَ المُجاهدون تلكَ المُستَوطَناتِ ونالوا ما نالوا من أسرى وغَنائم.
خاضَ عبدُ اللهِ معاركَ كثيرة، جَهَّزَ من العَبواتِ الكثير، وكان قَنّاصًا ماهِرًا على "الآر. بي. جي" والياسين (105). كان من أُولي البَأسِ الشديد، جَلدًا صَبورًا مُحترفًا، يَصبِرُ على الهدفِ بين الرَّصدِ والتَّخطيط، إلى أن تَحينَ الفُرصةُ الذَّهبيّة، فيَضرِبَ ضَربةَ مُعلِّم. كم من الميركافاة هذه وناقلات الجند ألقاها الأرض بقنصه الاحترافي، يتخيلها قضيّة ظالمة في محكمة فيلقي عليها نيرانه القاتلة.
بعد أن وضَعَت القيادةُ لمساتِها الأخيرةَ على كَمينٍ مُركَّبٍ ثلاثيِّ المَراحِل، أصرَّ عبدُ اللهِ على المشاركةِ المُباشرة.
ــ يا رجل، حاجتُنا لكَ في الإعدادِ والتَّخطيطِ أكثرُ من وجودِك في الميدان
ــ وهل يَغيبُ الأحرارُ عن الميدان؟
ــ أنتَ في عُمقِه يا سيّدي.
ــ ولكنّي بعيدٌ عن رصاصِ الاحتلال.
ــ وكأنّي بروحِكَ قد اشتاقَت للقاءِ بارِيها.
ــ هو ذاك... أنتَ تَفهَمني جيّدًا.
ــ كلُّنا مشاريعُ شَهادة: جِهادٌ نَصرٌ أو استشهاد.
اقتربَت الدبّابةُ، ولم يُشعِلِ الزِّنادُ رُوحَ الراجِمة، وكأنَّها من كثرةِ تشغيلِها قد هَرِمَت وشاخَت. أصابت من تلك الميركافاة كثيرا وكانّه قد جاء دورها اليوم، فكان للدبّابةِ أن تَهرُسَ هذا الجَبلَ الشامخ. آثَرَ الموتَ بهذه الطّريقةِ الفَظيعةِ القاسيةِ على أن تَسقُطَ القَضيّة، أو أن يُسجَّلَ في دفترِ حياتِه تراجَعَ لَحظةً أمامَ صَولةِ الباطلِ مهما بَلَغ.
(نقلتِ الكاميرا صورةَ الدبّابةِ التي تُداهمُ المُجاهدَ دون أن يَلتَفِتَ ثانيةً إلى الخَلفِ لِيُفكِّرَ في الهَرب... هي النّهايةُ العظيمةُ لهذا المُحامي الشُّجاع: عبدُ اللهِ خليلٌ عابدين.)