حذاء وشنطة ومربط شعر.. ماذا حمل الشهداء في أكفانهم؟!
klyoum.com
أخر اخبار فلسطين:
الاحتلال يقتحم بلدة طمونباسل جعرور – شبكة مصدر الإخبارية
حمّام بارد وحُلة نظيفة كأنه يوم عيد، غادر بهما الطفل مهند خيمته غرب مدينة غزة رفقة والده في صباح الإثنين، 4 أغسطس 2025، بعد إلحاحٍ وبكاء لاصطحابه معه إلى المكان الذي نشأ فيه وترعرع، بيتهم الكائن في حي الشجاعية المدمَّر شرقي مدينة غزة.
كان الشارع يتداول خبر انسحاب جزئي لقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي من الحي، بينما نجح بعض الأهالي في العودة لتفقد بيوتهم وجلب ما استطاعوا انتشاله من أسفل أكوام الركام التي غطت مرأى البصر، فلم يطيق الفتى ذو الأربع عشرة ربيعاً صبراً لعناق حجارة بيتهم الأثري، المنقوشة بذكريات أجيال ممتدة من عائلته.
تقول فاطمة جعرور، والدة مهند: "كان والده يخاطر أحياناً بالنزول إلى الشجاعية كلما سنحت الفرصة ولو لمجرد إلقاء نظرة من بعيد، وهذا الحب للحي وبيتنا الكائن فيه قد ورثه مهند عن والده، فكان دائم الرجاء له باصطحابه لإلقاء نظرة هو الآخر، لكن خطورة الوضع كانت تمنع كلينا من الموافقة؛ رغم بكاءه وتوسلاته اللامنقطعة".
وتردف جعرور: "في يوم الأحد، شاع بين الناس خبر انسحاب جيش الاحتلال من الشجاعية، وعرفنا من بعض جيراننا هناك أنهم استطاعوا الوصول إلى المنطقة، بل وجلبوا بعض الأمتعة التي اضطررنا جميعاً لتركها لحظة هروبنا تحت القصف المدفعي العنيف، ليعقد مهدي (والد مهند) العزم على الذهاب في اليوم التالي، حال كانت الأمور هادئة والأجواء مطمئنة".
وأمام الأخبار الإيجابية عن الهدوء النسبي في أجواء حي الشجاعية بعد الانسحاب الجزئي للاحتلال من داخله، تشبث الطفل مهند بوالده للذهاب معه هذه المرة، وكذلك بدأت شقيقتاه، راما وتسنيم، بالطلب من والدهم جلب بعض متعلقاتهم البسيطة التي بقيت داخل منزلهم قبل أن يُدمر بالقصف والنسف.
ويحكي أكرم جعرور، شقيق مهدي: "عرفت أن شقيقي مهدي قد خاطر رفقة طفله مهند والعشرات من الجيران بالعودة للشجاعية لتفقد المنازل وجلب ما يستطيعون إنقاذه من متعلقات، وكذلك علمت أن أحد أبنائي قد تبعه إلى هناك حيث يقع منزلي أيضاً، فسارعت للحاق بهم كي أعيدهم قبل أن تنقلب الأمور، فهذا النوع من الهدوء لحظي وخادع وليس مضمون العواقب".
ويتابع: "وجدت مهدي ومهند ونجلي محمد يقفون فوق ركام منزلنا، وهو بالأساس موروث من جدي ويعود بناءه لعام 1909، أي فترة الدولة العثمانية ما قبل الانتداب البريطاني على فلسطين، وقبل أن يذوب قلبي مرارةً صرخت بهم للمغادرة الآن وترك كل شيء، وبدأت بمحمد الذي أجبرته على الخروج من المنطقة فوراً، بينما أكد مهدي الذي كان منهمكاً في رفع بعض الحجارة واستخراج ثياب وأخشاب، أنه سيتبعني فوراً، لكنني رفضت التحرك وبقيت انتظره في مكاني على تل الركام".
ويؤكد جعرور أن الأجواء كانت هادئة فعلاً لحظتها، لا طائرات مسيرة، ولا قصف مدفعي، والعشرات بل ربما المئات من أهالي الحي كانوا حولنا يتفقدون بيوتهم أيضاً، وهذا ما جعله يصبر لبعض الوقت ريثما ينتهي شقيقه من وضع ما انتشله من أغراض داخل شنطة وكيس كبير لحملهم والمغادرة بهم.
في لحظة غفلة، كُسر هدوء المكان على زخاتٍ من الرصاص المتطاير فوق رؤوس المحتشدين حول ركام بيوتهم، وأمام انفجار الهلع سارع الجميع للاحتماء بأي شيء، بينما هرب مهند رفقة والده وعمه إلى منزل قريب كان لا يزال أحد جدرانه قائماً، ولتمضي عليهم نحو نصف ساعة من الرعب، سارت ببطئ كأنها سنوات بيتهم العتيق.
وبعد برهة من الصمت الحذر الذي ساد الأجواء، بدأ بعض الأهالي المحاصرين في استثمار الفرصة للركض والابتعاد عن المكان قبل أن يعود الجحيم لفتح أبوابه مرة أخرى، وعن تلك اللحظة يقول جعرور: "طلبت من مهدي ومهند ترك كل ما يحملانه والركض خلفي بسرعة دون النظر إلى الخلف، وعدم التوقف إلا عندما نصبح خارج الحي".
انطلق الأخ الأكبر وخلفه كلٌ من الطفل مهند ووالده، لكن احتفاظهم بحمل ما معهم من أغراض جعل خطواتهم أبطئ، فقد عزَّ على كليهما العودة دون أن يحملا معهما شيئاً من رائحة البيت، وقبل أن يرى مهند فرحة شقيفته الأصغر بحذاءها الذي انتشله من أسفل ركام بيتهم، دوى صوت انفجار أطفئ حياته.
يقول العم: "سمعت صوت انفجار فظننته خلفنا بمسافة، وصرخت على مهدي ومهند تعجيل خطواتهم، لكنني لم ألق منهم رداً، فالتفتت عليهما ووجدت أن كتلة من غبار القصف قد ابتلعتهما".
كانت الصدمة أقوى من قدرته على امتصاصها، فوجد نفسه متسمراً في مكانه يصرخ في مهدي تارةً وفي مهند تارةً أخرى، بينما هبطت طائرة الكواد كابتر، التي أسقطت القنبلة عليهما، فوق رفاتهما، واستيقظ الأخ الأكبر من صدمته على مشهد جذبه من بعض الجيران نحو الابتعاد، بعد أن بدأ ظهره بالنزيف نتيجة إصابة طفيفة.
وبعد ساعات تخللها محاولات متكررة لانتشال جثمانيهما بتطوع الجيران والأقارب؛ نتيجة عجز الطواقم الطبية والدفاع المدني الوصول للمكان، وجدوا الشهيد الطفل مهند لا يزال متشبثاً بكيس صغير، فشلت كل محاولاتهم وقتها في تخليصه من يديه، فحملوه معه، وعندما فُتح الكيس لحظة وداعه داخل المستشفى، كانت محتوياته (حذاء وشنطة ومربط شعر) وعد شقيقته الصغيرة بجلبهم معه.. وبعناده المعهود أبى ألا يبر بالوعد.. حتى بعد أن فاضت روحه.
لم تكن حمولة مهند ووالده استثناءً، فبحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وصور وشهادات حية وثقت انتشال العشرات من رفاة الشهداء ممن حاولوا العودة إلى بيوتهم في مناطق الإخلاء، حملوا معهم في لحظاتهم الأخيرة بعض المتعلقات البسيطة أو القليل من الطعام دفعهم الجوع للمخاطرة بالعودة لجلبه من بيوتهم التي غادروها تحت القصف، ليكون طفل مدني أعزل يحمل حذاء شقيقته، أو مدني مسن يحتضن حفنة من الدقيق، أهدافاً عسكرية لجيش يتوغل في ارتكاب شتى أشكال الإبادة منذ ثلاثة وعشرين شهراً.