قراءة سريعة لرواية "دابة الأرض" لأحمد رفيق عوض
klyoum.com
تقدّم رواية "دابة الأرض" لأحمد رفيق عوض نصًا سرديًا عالي الكثافة، يجمع بين الواقعي والأسطوري، ويعكس تعقيدات الحالة الفلسطينية بكل تناقضاتها. تتميّز الرواية بقدرتها على تحويل الفوضى السياسية والاجتماعية إلى فوضى جمالية خلاقة، تجعل القارئ أمام نصّ عاصف، متعدد الطبقات والدلالات.
ينطلق النص من توظيف عنوان "دابة الأرض" بوصفه مفتاحًا تأويليًا يدخل منه القارئ إلى عالم الرواية. يستثمر الكاتب الرمز القرآني بمهارة فنية دون الوقوع في المباشرة؛ فتحضر الدابة بوصفها كائنًا كاشفًا للفساد والظلم، وقوةً لاهوتية تُسائل الضمير الجمعي، وتُعيد قراءة الواقع الفلسطيني من منظور يتجاوز حدود السياسة اليومية نحو بعدٍ رؤيوي أوسع.
تعتمد الرواية ما يمكن وصفه بـ"تنخيل" الحالة الفلسطينية، ولا سيما في الضفة الغربية، عبر فحص حادّ لمظاهر الانقسام والفساد وتآكل البنية الاجتماعية والسياسية. هذا النقد يتم داخل بنية سردية لا تتحول إلى خطبة سياسية، بل إلى مشاهد وأحداث وشخصيات تكشف العطب الداخلي بصورة تدريجية وذكية.
يقدّم عوض رؤية روائية تعرّي الإخفاقات البنيوية في التجربة السياسية الفلسطينية منذ عقود، وتعيد مساءلة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين الاحتلال وتفكك الداخل. وهنا تتقدم الرواية بوصفها شهادة فنية على واقع مضطرب لا يملك رفاهية تجميل القبح أو الالتفاف عليه.
تظهر براعة الكاتب في رسم شخصيات واقعية متناقضة، تعبّر عن نماذج فلسطينية متعددة: الفاسد، الانتهازي، المقاوم، المنهزم، والموظف المطيع. وتقدّم شخصية وليد نموذجًا للمنفّذ الذي يقوم بدور التابع المتملق، بينما يجسد "الفاسد الكبير" المفارقة بين الجبروت والهشاشة، حيث يرتعد أمام رمزية الدابة ثم يعود إلى استبداده مع عودة السلطة.
هذه الشخصيات ليست مجرد أدوات للحدث، بل مرايا اجتماعية تعكس بوضوح أزمة الإنسان الفلسطيني تحت ضغط الاحتلال من جهة، وضعف البنية الداخلية من جهة أخرى.
تحضر المرأة في الرواية بوصفها عنصرًا بنائيًا فاعلًا، لا توابل سردية. فهي كائن حسيّ وعقلي في آن واحد، تسهم في كشف بيئة الفساد والخلل الاجتماعي، وتعبّر عن انكسارات الواقع وانحرافاته. وتقدّم الرواية شخصيات نسائية معقّدة، ترتبط بالسلطة والمال والعلاقات الشخصية، في صور تعكس هشاشة البنية الاجتماعية وتأثير السلطة على الأفراد.
لا يقدّم عوض المكان كحيّز هندسي، بل كعنصر فاعل يتداخل مع الشخصية والحدث. وتنجح الرواية في إحياء المكان الفلسطيني بحواسه الحية: رائحة الزعتر، المطاعم الشعبية، الحواجز، الأزقة، والأسواق. كما يبرز حضور "العالم الافتراضي" بوصفه فضاءً بديلًا، بلا قيم أو ضوابط، يعكس التحولات الثقافية والاجتماعية المعاصرة.
لغة الرواية من أبرز عناصر قوتها؛ فهي لغة سلسة، لا تميل إلى الزخرفة ولا إلى الجفاف، وتجمع بين السرد الواقعي والتأمل الفلسفي.
تتمتع رواية "دابة الأرض" بقدرة كبيرة على الجمع بين النقد السياسي والاشتغال الجمالي، لتقدّم نصًا يستدعي القراءة المتأنية. فهي ليست رواية حدث أو شخصية فحسب، بل رواية رؤية لأزمة أمة تبحث عن معنى في وسط الخراب.
إنها نصّ يتجاوز حدود السرد التقليدي ليصوغ عالمًا متشابكًا يستحق إعادة القراءة والبحث.