تقرير سجن جغرافيّ وتمهيد للتَّهجير... قراءة في خريطة "إعادة التَّموضع" الإسرائيليَّة في غزَّة
klyoum.com
في الوقت الذي تتكثف التحركات السياسية الإقليمية والدولية لبلورة اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، تبرز خريطة "إعادة التموضع" الإسرائيلية كمؤشر خطير على نوايا الاحتلال لإعادة تشكيل المشهد الجغرافي والديمغرافي للقطاع بقوة السلاح.
الخريطة التي عرضها الوفد الإسرائيلي على طاولات التفاوض غير المباشر في الدوحة، لا تتحدث فقط عن انسحاب جزئي أو إعادة انتشار، بل توضح ـ وفق خبراء ـ مساعي إسرائيلية لفرض واقع جغرافي جديد يقوم على محاصرة المدن، وتقطيع أوصال القطاع، والسيطرة على الأراضي الزراعية، بما يشبه تحويل غزة إلى "منطقة أمنية مغلقة" تتحكم (إسرائيل) بكل تفاصيلها.
هذا الواقع، الذي وصفه خبراء بأنه "سجن جغرافي كبير"، قد لا يكون مجرد ترتيبات أمنية مؤقتة، بل يمثل تمهيدًا عمليًا لفرض حل أحادي الجانب على غزة، يشمل التهجير القسري، وإنهاء أي إمكانية لعودة مئات آلاف النازحين إلى مناطقهم الأصلية.
وتبقي خريطة إعادة التموضع كل مدينة رفح جنوبي القطاع تحت السيطرة الإسرائيلية، وتأخذ مسافة عميقة على طول حدود غزة تبلغ في بعض المناطق 3 كيلومترات، ناهيك عن قضم 40% من مساحة قطاع غزة.
سجن إسرائيلي
وقال خبير الخرائط، خليل تفكجي، إن الخريطة الإسرائيلية تعكس نية واضحة لتحويل القطاع إلى سجن مغلق ومحاصر من جميع الجهات، بحيث يصبح الدخول والخروج منه مرهونًا بإذن إسرائيلي، وحتى التنقل إلى مصر لن يكون ممكنًا إلا بموافقة إسرائيلية.
وأضاف تفكجي لصحفية "فلسطين"، أن "ما تفهمه من هذه الخريطة الإسرائيلية هو أن (إسرائيل) تريد التحكم الكامل في قطاع غزة: الدخول والخروج، حتى الطعام والشراب، كل شيء يتم بإذن إسرائيلي"، مشددًا على أن هذه الخطة تسعى إلى تكريس الحصار وتحويله إلى واقع دائم، من خلال فرض خرائط ذات طابع أمني.
وأوضح أن "(إسرائيل) تريد القضاء على الزراعة في غزة"، مشيرًا إلى أن "المناطق التي تشملها الخريطة، وخصوصًا المناطق الشرقية من القطاع، تحتوي على معظم الأراضي الزراعية، والسيطرة عليها تعني خنق غزة اقتصاديًا ومعيشيًا"، معتبرًا أن الخريطة تمثل محاولة لمحاصرة القطاع بالكامل وتقسيمه إلى مناطق معزولة.
وشدد على أن "هذه الخرائط مرفوضة فلسطينيًا بسبب نتائجها الكارثية"، مؤكدًا أنها تشكل تهديدًا مباشرًا لوحدة القطاع الجغرافية والاجتماعية، وتمهّد عمليًا لخطط تهجير جماعي.
ولدى سؤاله عما إذا كانت الخريطة ترسم حدودا جديدة لقطاع غزة، قال تفكجي: "إذا اعتبرت هذه الخرائط نهائية، فإن ذلك يعني أن قطاع غزة قد انتهى"، موضحًا أن "(إسرائيل) تتحدث عن السيطرة على ما نسبته 40% من مساحة القطاع، فماذا يتبقى إذًا من غزة؟ المساحة الكلية للقطاع هي 365 كيلومترًا مربعًا، واقتطاع 40% منها يعني أننا أمام عملية تهجير وطرد وسيطرة كاملة".
وأكد أن "الخارطة التي تقدمها (إسرائيل) لا يمكن أن يقبل بها أي إنسان، فهي تحمل في طياتها سياسة قسرية تهدف إلى تفريغ القطاع من سكانه أو عزلهم في منطقة واحدة".
وأضاف تفكجي: "(إسرائيل) دائمًا تستخدم الخرائط للعب لعبة واضحة تمامًا. هذه الخرائط التي ترسمها كل يوم ليست مجرد خرائط أمنية، بل تُبنى وفق رؤية إسرائيلية استراتيجية تهدف إلى إنهاء قضية قطاع غزة بشكل نهائي".
التهجير عبر الاتفاق لا المدفع
من جهته، الكاتب والمحلل السياسي د. أحمد الحيلة رأى أن الاحتلال يحاول، عبر اتفاق وقف إطلاق النار، تحقيق ما فشل في تنفيذه بالقوة العسكرية، وهو فرض نموذج جديد من السيطرة على قطاع غزة، يفضي إلى تهجير السكان وتقليص المساحة الجغرافية للقطاع تحت غطاء أمني.
وقال الحيلة إن "ما لم تستطع (إسرائيل) فرضه عبر القوة المفرطة تحت عنوان السيطرة على قطاع غزة وتهجير سكانه، تحاول اليوم انتزاعه عبر الاتفاق السياسي، من خلال فرض خرائط إعادة التموضع".
وأضاف: "نعلم جيدًا، ومنذ إنشاء (إسرائيل) عام 1948، أنها لا تدخل في أي حزام أمني تحت عنوان الأمن المؤقت إلا ويصبح هذا الحزام حالة مستدامة، وسرعان ما يتحول إلى جزء من الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية".
وشدد على أن هذه المسألة "بالغة الخطورة"، موضحًا أن "اعتراف الفلسطينيين بهذه الخرائط يعني القبول بقضم الأرض، والأسوأ من ذلك أنه يُهيئ البيئة لتهجير الفلسطينيين".
وأشار إلى أن تصريحات وزير جيش الاحتلال، يسرائيل كاتس، التي أدلى بها يوم الاثنين الماضي خلال لقاء مع صحفيين إسرائيليين، تعزز هذا التوجه، حيث قال كاتس بصراحة: "لدينا مخطط لتجميع 600 ألف فلسطيني في رفح"، ما يشير بوضوح إلى نية مبيتة لإحداث تغييرات ديمغرافية خطيرة في القطاع.
وتابع: "الخريطة التي طرحت مؤخرًا تُظهر أن عدد الفلسطينيين الذين سيُحرمون من العودة إلى مناطقهم الواقعة داخل ما يسمى (الحزام الأمني) يصل إلى نحو 700 ألف نسمة، ما يتطابق عمليًا مع ما صرّح به كاتس، ويؤكد وجود خطة شاملة لتفريغ مناطق واسعة من سكانها".
واعتبر أن "التحكم الإسرائيلي في مدينة رفح هو جزء أساسي من هذه الخطة، لأن السيطرة على رفح تعني السيطرة على المعابر، وبالتالي التحكم في تدفق المساعدات الإنسانية والإغاثة، والتحكم في حركة الأفراد والخروج للعلاج، وهو ما يسهّل تنفيذ عملية التهجير".
وأشار إلى أن "عشرات آلاف الجرحى في غزة بحاجة إلى العلاج خارج القطاع، ومع التحكم الإسرائيلي الكامل في حركة المعابر، فإن القدرة على الوصول إلى الخارج ستُقطع عمليًا، ما يكرس العزلة الكاملة لغزة عن العالم".
وأكد أن الخطر لا يقتصر على السيطرة الديموغرافية فقط، بل يمتد إلى البعد الاقتصادي والمعيشي، موضحًا أن "المساحات الزراعية الأساسية في غزة تقع على الأطراف الشرقية، أي ضمن مناطق الحزام الأمني، والسيطرة عليها تعني حرمان الفلسطينيين من الزراعة، وخلق حالة من الاعتماد الكامل على المساعدات التي تتحكم بها (إسرائيل)".
وختم الحيلة بالقول: "بهذا الشكل، يتحول الفلسطيني إلى شعب محاصر، محروم من أرضه، ومن مصادر دخله، ومقطوع عن محيطه، وتُفرض عليه حياة قائمة على الحاجة والمساعدات، وهو واقع يمهد لأي عملية تهجير مستقبلي".