الأسبستوس… السمّ الصامت فوق ركام غزة: كارثة صحية تتفاعل ببطء
klyoum.com
في قطاع غزة الذي تبدّل وجهه تحت وطأة الدمار، لا ينتهي الخطر بانتهاء القصف، ولا تتوقف المعركة الصحية بمجرد صمت المدافع.
فبين الغبار الرمادي الذي يغمر الأزقة والمخيمات، تتسلل مادة الأسبستوس، ذلك السمّ الصامت الذي تختلط أليافه الدقيقة بالهواء وتستقر في رئات السكان والعاملين في إزالة الأنقاض، لتصنع كارثة صحية لا تقل خطورة عن الحرب ذاتها.
تشير تقديرات الأمم المتحدة في تقرير حديث إلى أن كمية الركام التي خلّفها القصف الإسرائيلي تتجاوز خمسين مليون طن، وأن إزالتها قد تستغرق واحدًا وعشرين عامًا، بتكلفة تصل إلى مليار ومئتي مليون دولار.
وتكشف تقارير أممية أن جزءًا من هذا الركام يحتوي على مئات الآلاف من الأطنان من الأسبستوس، وهي مادة تُعرف عالميًا بأنها من أخطر المواد المسرطِنة.
والأسبستوس هو مجموعة من المعادن الليفية الطبيعية التي استخدمت لعقود في العزل الحراري والصوتي وصناعة ألواح الأسقف وأنابيب المياه ومواد البناء المختلفة.
وقد اعتمدت عليها الكثير من الأبنية في غزة، وخصوصًا داخل المخيمات. لكنها تتحول إلى خطر قاتل عند تحطمها أو تعرضها للنيران، إذ تتحرر منها ألياف دقيقة جدًا تبقى عالقة في الهواء لفترات طويلة، وتدخل إلى الرئتين بسهولة لتتسبب في أمراض خطيرة تظهر آثارها بعد سنوات.
تؤكد منظمة الصحة العالمية أن جميع أشكال الأسبستوس الستة تُسبب السرطان، وأكثرها استخدامًا في غزة هو الكريسوتيل أو الأسبستوس الأبيض.
وتوضح أن التعرض لهذه الألياف يؤدي إلى سرطان الرئة وسرطان الحنجرة والمبيض وورم المتوسطة، إضافة إلى تليّف الرئتين.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من مئتي ألف شخص حول العالم يفقدون حياتهم سنويًا بسبب الأمراض الناتجة عن الأسبستوس، وأن ثلث وفيات السرطانات المهنية يرتبط مباشرة بالتعرض لهذه المادة.
ومع تراكم هذا الحجم الهائل من الأنقاض وبقاء ملايين الأطنان من المواد السامة مكشوفة، تواجه غزة تحديًا بيئيًا وصحيًا غير مسبوق. فالخطر لا يظهر فورًا، لكنه يترسخ في الهواء والتربة ويترك أثره ببطء في صدور الناس.
مخاطر تمتد لعقود
في تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "BBC"، يشرح البروفيسور بيل كوكسون، مدير المركز الوطني لأبحاث الورم المتوسطي في لندن، أن البيئة الحالية في غزة "شديدة السمية"، مضيفًا أن استنشاق ألياف الأسبستوس قد يؤدي بعد سنوات طويلة إلى أمراض قاتلة، أبرزها الورم المتوسطي الذي قد يظهر بعد 20 إلى 60 عامًا من التعرض الأولي.
وتشير الأبحاث إلى احتمال ارتفاع أمراض الجهاز التنفسي والالتهاب الرئوي والربو وانتفاخ الرئة بسبب الغبار الكثيف الناجم عن الخرسانة المحطمة.
سكان بلا حماية
ورغم خطورة الوضع، فإن قدرة السكان على تجنّب التلوث تكاد تكون معدومة. وتقول كيارا لودي، منسقة الشؤون الطبية في منظمة أطباء بلا حدود في غزة، إن السكان لا يرون استنشاق الغبار أولوية، مضيفة: "هم لا يجدون حتى الطعام، وهم أكثر خوفًا من الموت بالقنابل." كما تؤكد منظمات دولية أن انعدام الوعي والخدمات الأساسية يُبقي ملايين المدنيين عرضة للخطر دون أدوات للوقاية.
مخاطر إعادة الإعمار
تحذر الأمم المتحدة من أن عملية إزالة الأنقاض نفسها قد تزيد انتشار الألياف السامة، مع احتمالات عالية لتفاقم التلوث أثناء نقل الحطام أو سحقه. وتشير دراسات إلى مقارنة محتملة بين وضع غزة وما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر في نيويورك، حيث تجاوزت وفيات الأمراض اللاحقة عدد ضحايا الهجوم المباشر.
بينما تتواصل الجهود السياسية حول خطط إعادة الإعمار، يرى متخصصون أن مستقبل غزة يواجه تحديًا خطيرًا وغير مرئي اليوم، لكنه قد يتحول إلى كارثة صحية مزمنة لأجيال كاملة.
وتختتم ليز دارليسون، المديرة التنفيذية لجمعية ميزوثيليوما البريطانية، بقولها: "الأرواح التي تُفقد الآن لن تكون نهاية المأساة. سيستمر هذا الإرث لعقود."
وتتضاعف الأزمة بسبب الكثافة السكانية العالية في غزة، حيث تنتشر آلاف المنازل المبنية بألواح الأسبستوس، خصوصًا في المخيمات القديمة. ومع تدمير هذه المنازل، تفتتت المواد العازلة إلى غبار امتد فوق الأحياء المكتظة وجعل كل شخص يقترب من الأنقاض عرضة لخطر يستمر أثره لسنوات طويلة.
وتزداد خطورة المشهد مع تقارير تتحدث عن انتشار علب صفيح ومواد صناعية متفجرة في الأنقاض، بعضها أدى إلى إصابة أشخاص حاولوا فتحها ظنًا أنها مواد غذائية، ليتبين لاحقًا أنها مرتبطة بفتائل تفجير تستخدمها قوات الاحتلال لهدم المباني. هذا المزيج من المواد السامة والملوثات الصناعية يجعل التعامل مع الأنقاض مهمة محفوفة بالمخاطر، خصوصًا في غياب المعدات والملابس الواقية اللازمة.