الإغاثة المُفخخة: من الطحين إلى التوابيت حين تتحوّل المساعدات إلى مصائد دموية
klyoum.com
أخر اخبار فلسطين:
النفط يرتفع بدعم من تراجع المخزونات الأمريكية وتلاشي المخاوف الجيوسياسيةفي مشهد يتكرر حتى أصبح جزءًا من يوميات غزة المنكوبة، يقف الفلسطينيون في طوابير طويلة تحت الشمس أو القصف، لا لشيء سوى انتظار كيس طحين أو علبة طعام، لكن الانتظار هنا لا يعني الحياة، بل يعني وقوف على حافة الموت، فمع كل شاحنة إغاثة، هناك قناص، وطائرة، واحتمال انفجار.
أكثر من 500 شهيد ارتقوا حتى الآن، وهم يرفعون بطاقات المساعدات لا الرايات، ويحملون أوعية الماء والطعام لا السلاح، هؤلاء لم يُقتلوا في المعارك، بل قُتلوا في صفوف الحياة، قُتلوا لأنهم صدّقوا أن هناك من سيُطعمهم دون أن يُنهيهم، تحوّلت المساعدات شيئاً فشيئاً إلى نظام قتل ببطاقة غذاء، حيث يتمركز الاحتلال على أبواب الحاجة، ويوزّع الموت بدل المعونة، إننا أمام مشهد جديد من مشاهد الهندسة الدموية للإغاثة، حيث يُعاد تعريف الضحية لا كمقاوم، بل كمنتظر لطبق عدس.
في غزة، لم يعد الطابور مكاناً للانتظار، بل صار ممراً إلى المقبرة، عشرات الشهداء ارتقوا لا لأنهم حملوا سلاحاً أو صرخوا بشعار، بل لأنهم اصطفّوا للحصول على كيس طحين أو علبة فاصوليا، ومع كل مجزرة أمام نقطة توزيع يتضح أن الأمر لا يتعلق بخطأ ميداني أو اشتباك عرضي، بل بسياسة ثابتة تُمارس بعقل بارد وإرادة عنيفة، واللافت أن هذه السياسة تُنفّذ بصمت دولي، بل وبتواطؤ ناعم تُغلفه رواية الارتباك أو الزحام، وكأن الحياة الفلسطينية بلا قيمة إذا وقفتَ في الطابور، وهذا الطابور الذي يفترض أن يكون طريقاً إلى البقاء، تحوّل إلى ممرّ اغتيال جماعي مُنظّم، هو شكل جديد من الإبادة الذي يُستخدم فيه الجوع والانتظار، إنه الإعدام على مراحل، بالوجبة المؤجلة، والرصاصة المحتملة، والموعد الذي لا يعود منه أحد، وهذه ليست أخطاء، بل هندسة قتل عبر الطابور، والسكوت عنها هو مساهمة في شرعنة الموت بالجوع، فالاصطفاف للمعونة صار في غزة مشهد مقاومة لا يقلّ عن الخندق، لأنه بات فعل تحدٍّ للحصار، ومواجهة مع الاحتلال المُقنّع بغطاء الغذاء.
في غزة تطوّر شكل الإبادة ليصبح أكثر خُبثاً وهدوءً، وصار الخبز هو الفخ والسلة الغذائية هي المدخل إلى مربع الموت، نحن أمام نموذج غير مسبوق من السيطرة، من "الإغاثة المُفخخة"، حيث يُحكم الخناق على المدنيين تحت غطاء المعونة، فتجويع الناس لم يعد هدفاً بحد ذاته، بل صار وسيلة لإخضاع الجغرافيا، ولتحويل الحاجات الأساسية إلى نقاط ضغط استراتيجية، ومن خلال إدارة المساعدات يُعاد ترتيب المشهد السكاني، وكأن لقمة العيش أصبحت تصريح مرور أو ربما تذكرة موت مؤجل.
لا تحتاج غزة اليوم إلى خيال لتصنع مأساتها، فالمشهد مكتمل: كرتونة غذاء على الأرض مُلطخة بالدم، طفل يصرخ على جسد أبيه الذي خرج صباحاً بحثاً عن كيس طحين، وامرأة تحتضن حقيبة المساعدات وقد اخترق الرصاص ظهرها، هذه لقطات حقيقية من مواقع المجازر التي تحيط بمراكز توزيع المساعدات، والكاميرات لا تكذب: وجوه مذعورة، أجساد ممزقة، أطفال يُسحبون من بين الركام، وصرخات تختلط بأسماء الشهداء، مشاهد متكررة على أطراف كل نقطة إغاثة، وكأن القتل بات مرفقاً إلزامياً في كل نقطة توزيع، إن ما يحدث لا يمكن وصفه سوى بأنه جريمة تحت لافتة الرحمة، حيث تتحوّل نقاط المساعدات إلى حقول دم مفتوحة، يزرع فيها الاحتلال رصاصه بلا هوادة، ويجني منها الفوضى والتهجير.
هذه اللقطات التي تُبثّ من تحت الشمس الحارقة أو في ساعات الفجر الأولى، يجب ألا تمر كأخبار عابرة، هي ذاكرة بصرية جماعية للمذبحة المُقنّعة، يجب أرشفتها، وتعليقها على صدر كل من يتحدث عن تحسين الوصول الإنساني، إنها ليست مجرد مشاهد مؤلمة، بل وثائق اتهام ضد نظام يوزّع الموت ببطاقة غذاء، وضد عالمٍ يرى ولا يتحرك، وإنّ تسليط الضوء على هذه اللحظات بكل قسوتها ودموعها، هو في جوهره فعل مقاومة، وصياغة لخطاب جديد: الإغاثة إن لم تكن آمنة، فهي قتل معلّب بلغة الرحمة.