غزة والإقليم والعالم على مفترق طرق تاريخي
klyoum.com
أخر اخبار فلسطين:
إصابة طفل برصاص الاحتلال في بيت فوريكلم يعد الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي مجرد نزاع محلي. فقد أصبح، أكثر من أي وقت مضى، مرآة للتحولات الكبرى في النظام العالمي، ومؤشرا على هشاشة الأنظمة الرسمية على صعيد السياسات الداخلية والخارجية، من فلسطين إلى إسرائيل إلى العالم العربي والإقليمي والغربي.
في قلب هذا الصراع، *يبرز طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023، كنقطة تحول فاصلة، تعيد رسم موازين القوة بين إرادة الشعوب، ضعف الأنظمة، وطموحات القوى الإقليمية والدولية.
يستعرض المقال الأبعاد التاريخية والسياسية للصراع، ويستخلص الدروس الاستراتيجية التي تحدد مستقبل فلسطين والمنطقة والعالم.
على مدى أكثر من قرنين، كان المشروع الغربي الاستعماري الإحلالي الصهيوني في فلسطين تجسيدا لحصيلة انقلاب فكري جذري يفصل الدين عن الروحانية والمعاني الإنسانية: الصهيونية المسيحية في القرن السادس عشر، والصهيونية اليهودية والوهابية الإسلامية في القرن الثامن عشر، والسعي لإدارة العالم وفق مفهوم جديد يطوّع الأديان ويقطع صلة الخلق بالخالق، ناظم الكون منذ بدء الخليقة.
إذ تباينت مداخل الصهيونيتين المسيحية واليهودية، ببناء نظام غربي حداثي مادي عنصري، فيما انتهجت الوهابية المشرقية الإسلامية النهج السلفي، وإلغاء دور الحكماء والفقهاء في تفسير الدين، وإناطته بالذين يتمترسون خلف حرفية النصوص وتأويلاتها بما يخدم مصالحهم، وتجريد الدين من رسالته الإنسانية التحررية واختزاله بالطقوس.
ورغم تباين المناهج الحداثية والسلفية خلال القرون الثلاثة الماضية، إلا أن القوى الثلاث بدأت بالتقاطع في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وظهرت نقاط التلاقي بوضوح في منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
وعكستها المواقف المتقاربة من حرب الإبادة التي تشنها المستعمرة الصهيونية ورعاتها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لمحاصرة تداعيات طوفان الأقصى، الذي شكل مرحلة تاريخية فاصلة بين زمنين، وكشف الخلل البنيوي في نظام إدارة الدول، والانفصام بين القيم والسلوكيات، والتباعد المتنامي بين الشعوب التي تم محاصرتها وتهميشها، وبين النخب والأنظمة الرسمية.
السياق التاريخي والسياسي
منذ وعد بلفورعام 1917، مرورا بالانتداب البريطاني، ثم النكبة عام 1948، وصولاً إلى الاحتلال عام 1967، لم يكن المشروع الصهيوني مجرد هجرة جماعية لليهود هربا من معاداة السامية في أوروبا، بل كان مشروعا استعماريا استيطانيا إحلاليا في فلسطين. التي تقع في الموقع الجيوستراتيجي الأهم في منطقة الوصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري للمنطقة العربية الإسلامية الممتدة المستهدفة بالإخضاع، والتي تشرف على خطوط الملاحة والتجارة والمواصلات والاتصالات الدولية. وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة، وطاقة أحفورية بكلفة استخراجية منخفضة واحتياطيات هي الأكبر عالمياً، فضلاً عن مكانتها الدينية كموئل للديانات السماوية الثلاث التي يعتنقها ثلاثة أرباع البشرية، ما يجعلها مركز تلاقي مصالح القوى الدولية المتنفذة وتجاذباتها التنافسية.
انتقل هذا المشروع في العقود الأخيرة من مرحلة فرض الوجود العسكري الصهيوني إلى مرحلة إعادة تشكيل المنطقة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، عبر التطبيع، ومحاولات تصفية قضية اللاجئين عبر التوطين وتصفية وكالة الأونروا، التي تقدم خدماتها لنحو 7 ملايين لاجئ فلسطيني، لفرض واقع جديد في المنطقة.
في 29/9/2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما سماه خطة سلام جديدة لإنهاء حرب الإبادة في قطاع غزة.
وتشمل الخطة، بحسب ما نقلته وكالات الأنباء الدولية، تشكيل لجنة فلسطينية مؤقتة من التكنوقراط لإدارة غزة تحت إشراف هيئة دولية جديدة تُدعى “مجلس السلام”، يُفترض أن يترأسه الرئيس ترامب نفسه، مع انضمام عشر شخصيات بارزة وفق التصريحات الرسمية، من بينها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير، المندوب السامي البريطاني الجديد، وربما صهره جاريد كوشنر اليهودي الصهيوني، مصمم الخطة، وآخرين.
ستتمحور مهمة المجلس حول إدارة الشؤون اليومية للقطاع وإعادة إعماره، في مقابل القضاء على المقاومة الفلسطينية، وإعادة هندسة قطاع غزة جغرافيا وديموغرافياً وسياسيا واقتصاديا وثقافيا.
فلسطين بين المقاومة والتواطؤ
أعاد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 الاعتبار لخيار المقاومة، حيث استطاعت المقاومة الفلسطينية، رغم الحصار الممتد منذ أكثر من 17 عاما على قطاع غزة، أن تفاجئ المنظومة العسكرية الإسرائيلية المتقدمة، وتكشف هشاشة المستعمرة الصهيونية المنيعة.
هذا الحدث زلزل ثقة المجتمع الاستيطاني الصهيوني بنفسه، وأربك رعاته الغربيين وأتباعهم الإقليميين، وأثار شكوكا بجدوى الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، وبأهلية إسرائيل كملاذ آمن ومزدهر لليهود، وبمقدرتها على البقاء ذاتيا، وعلى أداء دورها الإمبريالي الوظيفي بكلفة مقبولة.
في المقابل، بدا واضحا عجز الطبقة السياسية والسلطة الفلسطينية عن مواكبة هذا التحول التاريخي.
الانقسام الداخلي، والتنسيق الأمني مع الاحتلال، والارتهان المالي والسياسي للدعم الخارجي، جميعها عوامل حدّت من قدرة النخب على التعبير عن نبض الشارع والارتقاء لمستوى اللحظة التاريخية، وتوظيف التضحيات الجسيمة لتحقيق إنجازات ملموسة توقف تقدم المشروع الصهيوني، وتسهم في استعادة الوجود الجغرافي والسياسي الفلسطيني، وتحويل الدولة الفلسطينية التي تعترف بوجوب قيامها على حدود العام 1967، الغالبية الساحقة من دول العالم 142 دولة (73.6%) إلى حقيقة.
هذا التباين بين إرادة الشارع وحسابات النخب يكشف مأزقا بنيويا عميقا: فبينما يدفع الشعب الفلسطيني ثمن وجوده بالدم والدمار، تتعامل بعض القيادات كرهينة لبنى سياسية واقتصادية صممت أصلا لضبطه وإضعافه.
الأنظمة العربية على المحك
كشفت التطورات خلال العامين الماضيين مدى هشاشة الأنظمة العربية في مواجهة حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وتجلت مآزقها في محاولتها التوفيق بين الضغوط الخارجية الإسرائيلية والغربية، وبين غضب شعوبها المتزايد بسبب سوء الإدارة وعقود من الإهمال السياسي والاقتصادي، والاستبداد، والتخلي عن القضية الفلسطينية.
وعكست القمة العربية والإسلامية الطارئة في مؤتمر الدوحة (15/9/2025) بعد الاعتداء الإسرائيلي على قطر في 9/9/2025، ثم اللقاء على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مع الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، عن المأزق الاستراتيجي للنظام الرسمي العربي والإسلامي.
فقد عجزت الأنظمة عن بلورة رؤية استراتيجية لمواجهة القوى الطامحة لإخضاعها، وعوضا عن ذلك اكتفت بإصدار بيان يدين العدوان، وباعتذار اسرائيل عن اعتدائها على قطر، وسعت لاستعطاف الولايات المتحدة الأمريكية لإدخال تعديلات على خطة اقتلاع الفلسطينيين من قطاع غزة وتهجيرهم خارجها، للحفاظ على صورتها أمام شعوبها من جهة، وتفادي الصدام المباشر مع إسرائيل والولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى.
لكن الامتثال للشروط الإسرائيلية والأمريكية سيلقي بظلاله السلبية ويعمّق الفجوة بين الشعوب والنخب: فالشعوب العربية بدأت تدرك حجم التواطؤ الرسمي، ما أدى إلى تنامي الغضب الشعبي بسبب الصمت والتخاذل الرسمي طوال عامين، والانحناء أمام الضغوط الخارجية الرافضة لوقف حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، المنقولة وقائعها بالبث الحي على مدار الساعة، وتراكم إرهاصات التصعيد الداخلي، ما يهدد الاستقرار السياسي.
لقد تراوحت استجابات الأنظمة بين:
• دول تميل إلى التطبيع الكامل أو الجزئي لتأمين مصالحها الأمنية والاقتصادية في المدى القصير.
• دول تحاول المحافظة على ظاهر الدعم للقضية الفلسطينية لتجنب الغضب الشعبي، مع استمرار التنسيق الأمني والتعاون السياسي والاقتصادي مع إسرائيل والغرب.
• دول مشلولة وعاجزة وغائبه.
فالأنظمة العربية - رغم موقعها المركزي، وبالرغم مما تمتلكه المنطقة من عناصر قوة جيوستراتيجية ثابتة - ليست فاعلة مستقلة، بل تعمل غالبا إما تابعة للخارج، أو تراوح في مكانها للموازنة بين الضغوط الخارجية والمصالح الداخلية، ما يكشف محدودية قدرتها على إحداث تغيير حقيقي على الأرض.
التحولات الإقليمية والدولية
تشير التطورات الأخيرة إلى أن النظام الدولي الأحادي القطبية الذي سيطر على العالم منذ نهاية الحرب الباردة بدأ يواجه تحديات متزايدة.
فقد أصبح واضحا أن الهيمنة الغربية وقيادة الولايات المتحدة تواجه قيودا متنامية نتيجة تصدعات داخلية وصعود قوى منافسة، أبرزها الصين وروسيا، إضافة إلى دول صاعدة في الجنوب مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، التي بدأت تسعى للاضطلاع بدور أكبر في صياغة القواعد الدولية.
في هذا السياق، تظل إسرائيل لاعبا إقليميا مزدوجا: فهي أداة لتحقيق مصالح الغرب في المنطقة، لكنها في الوقت ذاته قوة تمتلك قدرة على التأثير المباشر في الصراعات الداخلية والإقليمية، ما يتيح لها إعادة ترتيب موازين القوى المحلية لتعزيز موقعها القيادي الإقليمي.
كما برزت إيران وتركيا كلاعبين إقليميين فاعلين، يسعيان لتوسيع نفوذهما السياسي والاقتصادي والعسكري، والتأثير على ديناميات الصراع الإقليمي بما يعزز مكانتهما الإقليمية ويتيح لهما تشكيل تحالفات جديدة قد تعيد رسم خارطة القوى.
في المقابل، تظل الدول العربية غائبة كفاعلين مستقلين، وتتحول أراضيها إلى ساحات للصراعات الإقليمية والدولية، مع محدودية القدرة على فرض إرادتها أو حماية مصالح شعوبها واستقرارها بشكل فعال.
يمكن النظر إلى الساحة الإقليمية الحالية على أنها محصلة صراع بين إرادة الشعوب، وبين مشروع النفوذ الغربي الصهيوني، ومحدودية قدرة الأحادية القطبية على فرض القواعد السابقة، مع تنامي التنافس الإقليمي الإسرائيلي - التركي - الإيراني، ما يفتح المجال أمام العرب إن تجاوزوا خلافاتهم البينية ونسقوا مواقفهم لتغيير موازين القوى، بما يحفظ مصالح شعوبهم ويحمي استقرار دولهم.
فالتغير في توازنات القوة الإقليمية والعالمية يضعف القدرة الأحادية للغرب على حماية المشروع الصهيوني، ويفتح مساحات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية تعزز فرص الفلسطينيين والعرب في كسب سند إقليمي ودولي جديد.
فلسطين والعالم العربي والإقليم على مفترق طرق
الدرس الأول، الذي كشفه طوفان الأقصى هو تعذر الفصل بين السياسة والاقتصاد، وإظهار العلاقة العكسية الوثيقة بين المشروع الصهيوني والنفوذ الغربي من جهة، وبين مصالح الشعوب والمكونات الأصيلة في المنطقة من جهة أخرى.
فالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي لم يعد قضية فلسطينية - إسرائيلية، بل أصبح اختباراً لإرادة الشعوب العربية والإسلامية والجنوب العالمي والعالم، في مواجهة التحديات المصيرية.
والثاني، أن المقاومة ليست مجرد رد فعل عسكري، بل تعبير عن إرادة شعبية قادرة على إعادة صياغة قواعد اللعبة، في حين أن الأنظمة والنخب غالباً ما تظهر عجزها عن مواجهة التحديات الحقيقية.
الثالث، أن المعادلات القديمة لم تعد كافية لتفسير الواقع، وأن الإرادة الشعبية والمقاومة الفاعلة قد تصبح عوامل حاسمة في تشكيل مستقبل المنطقة والعالم.
فقد أطلق طوفان الأقصى مسار التغيير الشامل فلسطينيا وإسرائيليا وعربيا وإقليميا ودوليا.
الرابع، أن الشعب الفلسطيني الصغير والضعيف والأعزل، رغم الإبادة والحصار والتهجير المستمر، ما يزال قوة حية قادرة على إلهام شعوب العالم بتمسّكه بإحقاق حقوقه المشروعة في الحياة والحرية والعودة وتقرير المصير، وإعادة صياغة المعادلات السياسية والتاريخية.
والخامس، أن العالم يقف أمام خيارين:
1. الاستمرار في دورة الأزمات القديمة، واستمرار الهيمنة النيوليبرالية والاستبداد السياسي والاقتصادي والتغول العسكري.
2. مسار جديد يعيد تعريف موازين القوى، يعتمد على المقاومة، وتعزيز التضامن الإقليمي والدولي، وإعادة صياغة النظام الدولي بما يخدم حرية ومصالح الشعوب، وليس مصالح القلة النيوليبرالية المعولمة التي تحتكر السلطة والقوة والثروة.
ورغم حلكة الظلام حاليا، هناك نقطة ضوء في نهاية النفق تؤكدها التحولات الجوهرية المتسارعة، واتساع الفجوة بين مشاريع التحرر ومشاريع الإخضاع، ووضوح الاصطفافات بين من ينحازون لحقوق الشعوب ومن يدعمون منظومات القمع.
وأن ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر لن يكون كما قبله.
وأن تفعيل إرادة الشعوب عندما تسترشد بوعي معرفي ورؤية واستراتيجية وآليات تنظيمية ومؤسسية وبرامج تنفيذية، يشكل عاملا حاسما في إعادة تشكيل مستقبل فلسطين والعالم العربي والإقليم، وربما النظام الدولي.
وعليه تزداد الحاجة إلى فكر سياسي فلسطيني جديد يواكب الأداء الكفاحي للمقاومة والصمود الأسطوري لحاضنتها الشعبية، يصوغ مشروعا نهضويا - تحرريا - إنسانيا - ديمقراطيا، نقيضا للمشروع الاستعماري الصهيوني العنصري، ويضع خارطة طريق لتوظيف التضامن الدولي لتحقيقه في المدى المنظور.
يتضمن هذا المشروع إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وتنفيذ حق العودة للاجئين، وإنهاء التمييز العنصري ضد فلسطينيي 1948، كمدخل ممكن لحل الصراع الوجودي الفلسطيني - الإسرائيلي، من خلال تفكيك النظام الصهيوني العنصري، والتقدم نحو بناء دولة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، من المطلة شمالًا إلى أم الرشراش جنوبًا، ومن البحر الأبيض المتوسط غربًا إلى نهر الأردن شرقًا.
يتساوى جميع مواطنيها أمام القانون في الحقوق والحريات والواجبات. فقد باتت البيئة الدولية مهيأة لتحقيق هذا المشروع بفعل مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
هذا المسار ليس حلما بعيد المنال، بل رؤية ممكنة إذا استمرت المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني بدعم الشعوب والتضامن الدولي، لتصبح قوة حاسمة في إعادة صياغة المستقبل الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي.