اخبار فلسطين

وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

سياسة

امتحان فلسطين الكبير: حين تعبر الثانوية العامة من الورقة إلى الوعي

امتحان فلسطين الكبير: حين تعبر الثانوية العامة من الورقة إلى الوعي

klyoum.com

الكاتب: ثروت زيد الكيلاني

في جغرافيا متوترة يتنازعها الخراب والحنين، لا يُخاض الصراع على الأرض فحسب، بل على المعنى، على من يملك سلطة التسمية، وحقّ إنتاج السرد وتحديد الخرائط الذهنية قبل السياسية. فالحرب على فلسطين لم تكن يوماً على الامتداد الجغرافي وحده، بل على اللغة التي تُروى بها الحكاية، وعلى المناهج التي تُصيغها، وعلى المعرفة التي تُزرع في وعي الأجيال بوصفها "حقائق". ولذا، لم يكن التعليم في فلسطين يوماً ترفاً مؤسسياً، بل ممارسة سيادية تُعيد للإنسان الفلسطيني قدرته على تأويل نفسه، ومكانه، وزمنه، رغم انقطاع السياقات.

في ظل هذا الفهم، لا يعود المنهاج محتوى جاهزاً، بل حقل اشتباك تأويلي، تُخاض فيه معركة الذاكرة. تُستهدف الهوية لا بالشطب المباشر، بل بإعادة تشكيلها عبر أدوات تعليمية مستوردة، تُحاكي المعايير العالمية بمعزل عن الروح المحلية. وهكذا ينتصب التعليم في فلسطين كجبهة تحرير معرفية، تتجاوز وظيفة التلقين نحو صياغة الذات، ويغدو المعلّم حاملاً للرموز الثقافية، وصانعاً لسردية متماسكة تُقاوم الاستلاب، لا مجرّد ناقلٍ للمادة.

اولاً: امتحان الثانوية العامة بوصفه تكافلاً يتجاوز العادي

في لحظة طارئة، تكشفت الإمكانيات الجمعية للشعب الفلسطيني، لا عبر صيغ النجاة المعتادة، بل عبر الإصرار على حماية لحظة التعلّم كفعل وطني. لم تكن امتحانات الثانوية العامة مجرّد انتظام إداري، بل مشهداً اجتماعياً جامعاً تجلّى فيه وعي الجماعة بأن التعليم ليس خدمة استهلاكية، بل تعاقداً أخلاقياً يعكس الالتزام العميق بالمعرفة بوصفها فعل بقاء. اجتمع المعلمون، والعائلات، والمؤسسات في نسيج غير معلن من التضامن، يُقاوم العطب لا بالتجاوز، بل بالصمود التربوي.

ولم يكن الامتحان إعادة لما كان، بل إعلاناً عما ينبغي أن يكون: أن تبقى فلسطين قادرة على صوغ مستقبلها حتى من قلب الطوارئ. لقد اتسع المعنى، فلم يعد التعليم نشاطاً منفصلاً عن حياة الناس، بل صار نقطة التقاء بين الذكرى والكرامة. تكفّلت الجماعة التربوية بحماية الأسئلة، لا فقط بوصفها أدوات قياس، بل بوصفها علامات بقاء. وهكذا، بدا أن المعرفة نفسها قد استعادت معناها كأفق جمعي، تُؤسَّس فيه فلسطين من جديد: وطناً لا ينكسر في العتمة.

ثانياً: من الامتحان إلى الوعي: مساءلة تربوية حية

حين يُجرى الامتحان وسط القصف، لا تعود الورقة حيادية، ولا يبقى السؤال مجرد فقرة تعليمية. بل يصبح الجواب تمريناً على الحضور، وتصبح الكتابة فعلاً لصدّ المحو. الامتحان هنا لا يختبر التحصيل، بل يقيس قدرة الطالب على أن يتمسك بفكرته في مواجهة محاولة كيّ الوعي. يتحول السؤال إلى موقع اشتباك رمزي، وتتسرب الكرامة من بين السطور، حيث يصبح الجواب نوعاً من إعلان الذات، في لحظة تكاد تنكرها الأحداث.

ومن هنا، لا بد من إعادة تعريف طبيعة الامتحان، لا باعتباره إجراءً منهجياً فحسب، بل لحظة تربوية فارقة تسائل بنية التفكير نفسها. أن نُسأل يعني أن نوجَد، وأن نُجيب يعني أن نحمي ذاكرتنا من النسيان المُمنهج. حين ينتقل الامتحان من السؤال عن "الصواب"، إلى مساءلة "الجدوى"، يصبح أداة للتحرير المعرفي، لا فقط وسيلة للفرز. وهنا يكمن تحوّله من ممارسة تعليمية إلى إعلان عن الذات الواعية، وعن حقّ الإنسان في صياغة أجوبته على الحياة.

ثالثاً: إعادة تعريف النجاح: الكرامة كمخرج تربوي

لم يعد النجاح مجرد حصيلة عددية تقاس بالمجال والفرز، بل غدا أفقاً إنسانياً يُقاس بمدى قدرة الطالب على التفكير في ظروف غير آمنة، وبتحوّله من متلقٍّ إلى صانع معنى. نحن بحاجة إلى امتحان لا يكرّس التماثل، بل يُنصف التنوّع، ويعترف بالاختلاف كبنية غنى، لا خلل. فالكرامة التربوية لا تبدأ من السؤال المطبوع، بل من شعور الطالب بأن له مكاناً حقيقياً في الحقل المعرفي، وأنّ صوته مرئيّ ومُصغى إليه.

في هذا الإطار، يجب أن تصبح الثانويّة العامة موسماً لإعادة بناء علاقة النظام التربوي بالإنسان، لا فقط بالنجاح الأكاديمي. المطلوب ليس تسهيل الامتحان، ولا فقط تشديد المعايير، بل تشييد امتحان عادل، يُكرّس الحقّ في التفكير بوصفه أساساً للتفوق. هذا هو الامتحان الذي نريده: أن يحترم لغة الطالب، ويُفسح للكرامة أن تكون جزءاً من النتيجة، لا مجرد أثر جانبي.

رابعاً: السياسات التعليمية: حين تتحوّل الرؤية إلى التزام

ليس من المقبول أن تبقى السياسات التعليمية أسيرة الاستجابة الطارئة أو المستوردة. لا بد من نقلها من خانة الإدارة إلى فضاء الرؤية، ومن حدود الأداء إلى عمق الفلسفة. فالتعليم الفلسطيني بحاجة إلى مشروع يُعيد تأصيل الفعل التربوي بوصفه التزاماً تجاه الذاكرة، وانفتاحاً على العالم دون التنازل عن الذات. نحن لا نريد سياسات تكيّفية مع الاضطراب، بل نريد تصورات تبني المعنى رغم الاضطراب، وتنتج أدوات تربوية تنبع من الأرض، وتتغذى على التنوع، وتؤمن بالحرية كجزء من بنيتها المعرفية.

وفي هذا السياق، لا يعود إصلاح الثانوية العامة مجرد تطوير شكلي في آليات التقييم، بل يعاد توجيهه نحو إعادة هندسة العلاقة بين الطالب والمعرفة، بين المعلّم والنظام، بين المدرسة والمجتمع. لا نريد "نظاماً ناجحاً" بالمعايير الخارجية، بل نريد نظاماً ينتج مواطناً مسؤولاً، ومُعلماً مؤثراً، وطالباً، واعياً بزمانه، ومكانه. هذا هو أفق الإصلاح الحقيقي، الذي لا يكتفي بالتماهي مع نماذج عالمية، بل يبني نموذجه الخاص، المُشبع بالرموز، والمروّي بتجربة البلاد.

ختاماً، وما لم يُقَل بعد، فإن ما جرى هذا العام لم يكن مجرد نجاح في تنظيم الامتحانات، بل لحظة انكشاف لما تختزنه الجماعة الفلسطينية من وعيٍ حميميّ يستعيد المدرسة كحقلٍ جماعي للكرامة، لا كجدرانٍ مغلقة على التلقين. لقد كتبنا، في قلب العتمة، أن التعليم لا يُقهر، لأنه لا يُختزل في إجراءٍ وظيفي، بل يتجسّد كمعنىٍ ممهورٍ بالذاكرة والموقف. إنها لحظة تقول إن فلسطين لم تُهزم، لأن الوعي لم يُصادر، وأن الشعب الذي علّم أبناءه في الخيام وتحت النار، لا يفتقر إلى هندسة منظومة تُقاس بالكرامة لا بالكفاءة فقط، وبالرمز لا بالرقم.

وفي هذا كلّه، تُعلن فلسطين أنها لن تتخلى عن الحبر مهما كثُف الدخان، ولن تتنازل عن الكوفية في المنهاج مهما تعولم المحتوى، لأن التعليم ليس استجابةً للواقع بقدر ما هو إعادة تشكيلٍ له، وصياغة لرؤيةٍ تسبق السياسة وتتجاوز الأداء. إنه الشكل الأعمق، والأهدأ، والأطول مدى، في معارك التحرر غير المعلنة. وما دام الفكر يقظاً، سيبقى التعليم في فلسطين شاهداً على بقاء الإنسان، لا فقط كمتعلّم، بل كفاعلٍ في المعنى، وحاملٍ لصوت لم يُخمد بعد.

*المصدر: وكـالـة مـعـا الاخـبـارية | maannews.net
اخبار فلسطين على مدار الساعة