اخبار فلسطين

وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

سياسة

فلسطين بين الشرعية الرمزية والقيود الواقعية

فلسطين بين الشرعية الرمزية والقيود الواقعية

klyoum.com

الكاتب: ثروت زيد الكيلاني

ينبثق الواقع الفلسطيني اليوم عند مفترق الرمزية والفعل، حيث يُقر العالم بحق الفلسطينيين في دولة، لكن دون أن تتوافر أدوات تنفيذية تحول الاعترافات إلى سيادة فعلية. هذه الشرعية الرمزية، رغم قيمتها الدبلوماسية، تظل حبيسة الخطاب الدولي، محاطة بآليات إدارة الأزمة أكثر من كونها جسراً نحو التحرر الوطني. تتطلب قراءة هذا المشهد تفكيك الرمزية عن الفعل، وتحليل الاستراتيجيات الإقليمية والدولية التي تتناول فلسطين ليس كمشروع تحرري قائم بذاته، بل كحالة اختبار لإعادة هندسة الشرق الأوسط، حيث تُصاغ الدول المطواعة وتُحدد قواعد اللعبة الاقتصادية والأمنية، مع إبقاء فلسطين تحت مظلة رمزية تمنحها الوجود، لكنها تحجب عنها أدوات الفعل السيادي.

في قلب هذا المشهد، تتشابك الاعتبارات السياسية مع أبعاد فلسفية عميقة؛ فالقوة الدولية لا تعترف بالحق فحسب، بل تعيد صياغة مقاييسه ومضامينه، فتتحول الحقوق القانونية إلى رهانات على موازين النفوذ والضغط الشعبي والدبلوماسي. الشرق الأوسط الجديد، كما تصوره الاستراتيجيات الغربية والإسرائيلية، ليس مجرد جغرافيا سياسية، بل شبكة من العلاقات المشروطة، حيث تُختبر مقاومة السيادة الفلسطينية مقابل قدرات الاحتلال على التكيف مع الضغوط الدولية، في سياق يوازن بين مصالح الدول الكبرى ومطالب شعوب المنطقة.

التحدي المركزي يكمن في قدرة الفلسطينيين والإقليم على استثمار هذه الشرعية الرمزية وتحويلها إلى أدوات ضغط عملية وملموسة. يمكن لهذه الشرعية أن تتحول إلى قوة قانونية، اقتصادية، وسياسية، تعيد الأرض إلى أصحابها، وتفرض التزامات على الاحتلال، إذا أُحسن توظيف الاعترافات ضمن استراتيجية وطنية وإقليمية متكاملة. وإلا، فإن فلسطين ستظل حاضرة كرمز أخلاقي، مفصولة عن مشروع السيادة والتحرر، في ظل إعادة هندسة الشرق الأوسط وفق قواعد الدول المطواعة، حيث يتم تقييد القرار السياسي الفلسطيني تحت ستر الاعتراف الدولي، بدل أن يكون مدخلاً لتحقيق دولة حقيقية ذات سيادة، وفي قلب هذه الشرعية الرمزية، تتجلى الاعترافات الدولية كأول اختبار لقدرة الفلسطينيين على تحويل الشرعية إلى نفوذ عملي.

أولاً: الاعترافات الدولية: شرعية خطابية بلا قوة إلزامية

يمثل الاعتراف الدولي بفلسطين من قبل 159 دولة خطوة رمزية على صعيد الخطاب الدبلوماسي، لكنه لا يترجم تلقائياً إلى أدوات قوة تُلزم إسرائيل بوقف الاحتلال أو استعادة الأراضي. الشرعية الدولية تبقى حبراً على ورق ما لم تُرفق بآليات مراقبة وعقوبات واضحة، ما يضع الفلسطينيين أمام تحدٍ مزدوج بين المضمون والرمزية.

وفي ظل هذا الفراغ التنفيذي، تنشط القوى الغربية لتقديم بدائل ظاهرية بدل الحقوق السياسية، تحولت بعض المراكز الغربية القضية الفلسطينية إلى ملف "رفاهية إنسانية"، حيث يُستبدل الحق في تقرير المصير بمشاريع اقتصادية وخدمات يومية، كما ظهر بوضوح في مقاربات ترامب وبلير. هذا الانزياح يعكس فجوة بين الاعتراف الرسمي والواقع الميداني، ويجعل السلطة الفلسطينية طرفاً مراقباً بدلاً من كونها صاحب قرار سيادي على الأرض.

ينتج عن هذه الديناميكية واقع مزدوج: فلسطين معترف بها دولياً لكن سيادتها مقيدة، والحقوق الوطنية محكومة بقدرة الفلسطينيين على استثمار الشرعية الرمزية. كل اعتراف يجب أن يُقرأ بوصفه "أداة محتملة" لا "حق مكتسب"، ويصبح اختباراً لقدرة الفلسطينيين على تحويل الشرعية إلى نفوذ عملي على الأرض، مع استثمارها في كل الملفات الاقتصادية والسياسية والقانونية، ومع أن الاعترافات تمنح الفلسطينيين غطاءً دولياً، فإن التوازنات الإقليمية تحدد مدى إمكانية ترجمة هذه الشرعية إلى فعل على الأرض.

ثانياً: التوازنات الإقليمية: البيانات والاتفاقات بين الرمزية والواقع

يحمل البيان السعودي–الفرنسي رمزية واضحة لدعم الحقوق الفلسطينية، لكنه يعكس توازناً دقيقاً بين الضغوط الشعبية وحسابات المصالح الاستراتيجية. السعودية تحافظ على دورها الرمزي في القضية، بينما تحاول فرنسا إعادة موقعها كلاعب أخلاقي في الإقليم، لكن كلا الطرفين يلتزمان بالمعادلات الغربية الكبرى، مما يجعل البيان أقرب إلى "تحالف سياسي رمزي" منه إلى التزام فعلي بتحرير الأرض.

تُظهر اتفاقيات أبراهام محدودية التطبيع: فرفض الشارع العربي للتطبيع يوازن بين الانفتاح الاقتصادي والحفاظ على الشرعية الرمزية للقضية، بينما لم تتمكن إسرائيل من تحقيق "طبيعية الدولة" رغم اندماجها الاقتصادي الإقليمي. فلسطين بذلك تظل حاضرة في القرارات الرمزية، لكنها غائبة عن أدوات التحكم الفعلي في الأرض والسياسة، ما يحول الاعترافات إلى اختبار للقدرة على التحرك ضمن قيود الهيمنة.

تخلق هذه الديناميكية واقعاً مزدوجاً، حيث تتحقق تحسينات اقتصادية وشراكات أمنية محدودة، بينما تبقى السيادة الفعلية غائبة. يطرح هذا الواقع سؤالاً فلسفياً محورياً: كيف يمكن للحق أن يُمارس عندما تصبح السياسة مجرد أداة رمزية أكثر منها قوة تنفيذية؟ وهل يمكن للرمزية أن تتحول إلى قوة فعّالة إذا أحسن الفلسطينيون توظيفها ضمن استراتيجية متكاملة ومؤسسية؟، وتكشف هذه التوازنات عن شبكة أوسع، حيث تُوظف فلسطين كعنصر في مشروع إعادة هندسة الإقليم وفق مصالح القوى الكبرى.

ثالثاً: الهندسة الدولية للشرق الأوسط: فلسطين مختبر للهيمنة

تُستثمر إسرائيل كأداة محورية في مشروع الغرب لإعادة تشكيل بنية الشرق الأوسط، حيث تتحول الدول إلى كيانات مقيدة اقتصادياً وعسكرياً، وتبقى فلسطين محتفظة بمكانتها كرمزية، إلا أن الاعترافات الدولية لا تتحول بها إلى سيادة فعلية. كل مشروع اقتصادي أو أمني يتعلق بفلسطين يُجسّد تجربة "إدارة حياة" تُبعد مركز القرار عن اليد الفلسطينية، وتحوّل الحقوق إلى إدارة مشروطة ومراقبة، بعيداً عن ممارسة السيادة الحقيقية. هذا الواقع يضع الفلسطينيين أمام مأزق فلسفي وسياسي جوهري: كيف يمكن للحق أن يترسخ عندما تتحوّل السياسة إلى رمزية صامتة أكثر منها قوة فعلية؟ وهل يمكن تحويل هذه الرمزية إلى أدوات نفوذ حقيقية إذا أُحسنت استراتيجياً على المستويين الوطني والإقليمي؟

تحولت المشاريع الغربية فلسطين إلى مختبر لإدارة الفلسطينيين: تحسين البنى التحتية، مراقبة الموارد، وشراكات أمنية، دون تفكيك الاحتلال. تتحول الحقوق إلى برامج اقتصادية وتقنية تُدار وفق مصالح القوى الكبرى، وتصبح فلسطين اختباراً عالمياً لفلسفة "الشرعية بدون سيادة"، حيث الحق موجود شكلياً لكن الفعل مقيّد.

ينتج عن هذه الاستراتيجية شرق أوسط مؤطر وفق مصالح الهيمنة الغربية والإسرائيلية، حيث تُحفظ فلسطين في ذاكرة الوعي الدولي، لكن أدوات تحولها إلى دولة سيادية تظل مقيدة. ويظل السؤال الفلسفي حاضراً: هل يمكن أن يكون الحرمان من الفعل ممارسة للسلطة نفسها؟ وهل يمكن تحويل الرمزية إلى قوة فعالة إذا أحسن الفلسطينيون استخدامها؟، وبناء على هذا الإطار الدولي، تبرز السيناريوهات المستقبلية المحتملة التي تحدد مسار فلسطين بين التثبيت الرمزي والتدويل الفاعل.

رابعاً: السيناريوهات المستقبلية: بين التثبيت والتدويل

على المدى القريب، يبدو السيناريو الأكثر احتمالاً هو "التثبيت المقنن": تراكم الاعترافات، مشاريع إعادة إعمار، شراكات أمنية محدودة، دون إنهاء الاحتلال. فلسطين تحصل على تحسينات إنسانية لكنها تفقد تدريجياً القدرة على ممارسة السيادة الكاملة، فيصبح المشروع الوطني جزءاً من إدارة أزمة رمزية، حيث تبقى الحقوق قائمة شكلياً دون مضمون فعلي.

في المقابل، يقدم السيناريو الأقل احتمالاً "التدويل الفاعل" إمكانية جزئية لاستعادة السيادة، حيث تفرض تحالفات دولية مؤثرة إجراءات إلزامية على إسرائيل، وتصبح الاعترافات الدولية أدوات ضغط عملية، لكنها تتطلب بناء مؤسسات فلسطينية قوية وتحالفات إقليمية داعمة، مع استراتيجيات دبلوماسية وإعلامية متقدمة.

تظل فلسطين أمام مفترق وجودي وسياسي: هل تتحول الشرعية الرمزية إلى قوة حقيقية تُعيد الحق في المضمون، أم ستبقى قضية رفاهية سياسية تُدار وفق مصالح القوى الكبرى؟ الواقع الحالي يفرض على الفلسطينيين صياغة استراتيجية متوازنة تجمع بين الفعل السياسي والشرعية الدولية والمبادرة الذاتية، مع الحفاظ على الهوية الوطنية والرؤية التحررية.

ختاماً، تظل فلسطين مرآة للوجود الإنساني والسياسي، حيث يُختبر الحق في مواجهة إرادة الهيمنة، والقدرة على تحويل الاعتراف الرمزي إلى فعل ملموس. اليوم، لا يكفي أن تُسجل الشرعية في دفاتر الأمم، بل يجب أن تُستثمر في أدوات سياسية، اقتصادية، وقانونية متكاملة، تمنح الفلسطينيين القدرة على استعادة سيادتهم المهدورة وإعادة الحقوق إلى جوهرها. إن التحدي ليس مجرد مقاومة الاحتلال، بل صياغة مشروع وطني مستقل قادر على تحريك المسار الدولي بما يخدم الحرية والكرامة.

فلسطين بذلك تظل تجربة وجودية وفكرية مستمرة: تسائل دائم عن قوة الحق حين يُواجه السيادة الممسوكة من الخارج، وعن إمكانية تحويل الرمزية إلى قوة حقيقية تعيد الإنسان إلى مركز القرار. هي دعوة للخطوة السياسية الواعية، والفعل الاستراتيجي المؤطر بالفكر الفلسفي، كي لا يصبح الاعتراف الدولي غطاءً لإدارة الأزمة، بل محرّكاً للتحرر والسيادة التي تستحقها الأرض والشعب.

*المصدر: وكـالـة مـعـا الاخـبـارية | maannews.net
اخبار فلسطين على مدار الساعة