اخبار فلسطين

فلسطين أون لاين

سياسة

مرام؛ بنت البيت المهدوم التي أفلتت بامتيازها من قبضة الحرب/ الجزء الثاني

مرام؛ بنت البيت المهدوم التي أفلتت بامتيازها من قبضة الحرب/ الجزء الثاني

klyoum.com

جغرافيا الألم وخرائط الإصرار

في تجربة مرام كانت جغرافيا كاملة تحاصر الجسد وتختبر قدرته على الاحتمال، كانت تدرس فوق أرضٍ قاسية، باردة، غير صالحة للجلوس لساعات طويلة، حتى صار ظهرها سجلاً مفتوحاً لمعركة يومية لا يراها أحد، تقول: "مرات ما أقدر أنام من وجع ظهري، كنت أقوم وأنام وأنا ظهري موجوع من الجلوس الطويل"، ذلك الوجع كان إشارة دائمة إلى أنها لا تملك رفاهية الراحة التي يحصل عليها طلاب آخرون، حتى الضوء الذي يُفترض أن يساعدها على الدراسة كان ضوءً شحيحاً، ضعيفاً، يقطع فجأة أو يضطرب مع الرياح، فتضطر لإعادة ترتيب الكتب، وإعادة تهيئة نفسها للتركيز من جديد، تقول: "الضوّ كان ضعيف، مرات يخف فجأة وأنا بدرس، وأرجع أبدأ من أول"، ورغم انعدام الظروف، ظل الإصرار لديها أكبر من كل ما تواجهه، كانت تدرس حتى آخر نقطة قدرة، ثم تغفو في لحظة انهيار تام، تقول عن ليلها عندما ينتهي: "أحلى فقرة كانت بس أحط راسي وأنام.. وأول ما أحطه على المخدة كنت أغفى من التعب بدون ما أشعر"، هذا التعب هو تعب نجاة، تعبُ من يحمِل على كتفيه الحرب والنزوح والامتحان في آن واحد، ومع ذلك كانت مرام قادرة على إدارة كل هذا الألم بوعيٍ داخلي لا يشبه سنّها، وكأنها تبني خارطة إصرار تتجدّد كلما ضاق المكان أو انطفأ الضوء.

أما الأسرة، فكانت حضوراً حنوناً لكن غير قادر على حماية تفاصيل يومها، إخوتها كانوا ينامون بالقرب منها، في مواجهة مباشرة مع تعبها وليلها الطويل، تقول: "كنت أخاف أزعج إخواتي وهما نايمين، وأحاول أدرس بهدوء حتى لو أنا تعبانة كثير"، هذا المزج بين التعب الجسدي وواجبات العائلة منح تجربتها بُعداً أكثر رهافة؛ فهي لم تكن تقاوم الدمار فقط، كانت تقاوم الإحساس بالذنب لأنها تسرق من نوم الآخرين لحظة نور، وبين سهرٍ يثقل العين وجسدٍ يطالب بالراحة، كانت مرام ترسم خطوط خلاصها بصلابة، وتحول كل ليلة باردة إلى درس إضافي في الإصرار.

الامتياز كصفعة في وجه الحرب

حين ظهرت نتيجة مرام، كان معدل الامتياز صفعة سياسية في وجه مشروع كامل يعمل على سحق الإرادة وتشويه الوعي، في غزة، النجاح ليس فعلاً فردياً؛ هو حدثٌ يختبر قدرة الناس على تحطيم السقف الذي يفرضه الاحتلال على حياتهم، بهذا المعنى، كان معدل مرام إعلاناً واضحاً: الحرب فشلت، والمجاعة فشلت، وهندسة الإفقار لم تنجح في كسر الجيل الذي يدرس على ضوء خافت وتحت سقف خيمة.

الامتياز في غزة ليس تفوقًا أكاديميًا؛ إنه بيان مقاومة، وهو الدليل الذي لا يمكن دحضه على أن القصف لا يصنع الجهل، وأن تدمير المدارس لن يصنع أجيالاً بلا مستقبل، مرام نفسها قالت: "الحمد لله خلصت هالسنة، وكل هاد صار ذكريات.. وإن شاء الله لقدّام أحسن"، هذه الجملة البسيطة في ظاهرها، تحمل معنى سياسياً عميقاً، أنّ الوعي الفلسطيني قادر على تحويل الكارثة إلى ذكرى، وتحويل الذكرى إلى طاقة اندفاع نحو المستقبل.

إن تفوّق مرام، وهي تحت الحصار والنزوح وفقدان الأقارب والجوع والبرد، يفكك الرواية الصهيونية التي تروّج لفكرة أن الحرب تسحق كل شيء، بل على العكس، هذا النجاح الفردي يثبت أن هندسة الإفقار انهزمت أمام هندسة الإرادة؛ وأن كل موجة تدمير تنتج –رغماً عنها– وعياً أكثر صلابة وتصميماً.

في سياق عام من التجويع، وانقطاع الماء والغذاء، وقصف البيوت والمدارس، يصبح نجاح مرام رمزاً مضاداً للسياسة الاستعمارية، إنها تقول للعالم، دون خطبة أو شعار: إن الطفل الفلسطيني لا ينجو فقط؛ بل يتفوق، رغم أن منظومة كاملة بُنيت لمنعه من ذلك.

الامتياز هنا لا يُقرأ كإنجاز فردي، هو علامة سياسية، أنّ جيلاً وُلد بين الفرقان والطوفان لم يُهزم، وأن ما يُبنى على أنقاض البيوت يمكن أن يكون أمتن مما يُبنى في القصور، وأن تفوق فتاة واحدة قد يفضح مشروعاً استعمارياً كاملاً عاجزاً عن كسر إرادة طفل.

حين تكتب غزة مستقبلها رغم الجحيم

ليست قصة مرام مجرّد فصل شخصي في دفتر الحرب، قصتها عيّنة مكثّفة من سردية جيلٍ كُتب له أن يكبر على أصوات الطائرات، وأن يتعلّم وسط الخراب، وأن يواصل الدراسة كما لو أنه ينتصر على آلة العدم كل صباح.

في رسالتها لأمها، تلك التي تقرأ الأخبار عن بُعد وتحمل الخوف في قلبها كل ليلة، كتبت مرام وكأنها تدافع عن حقٍ جماعي لا عن معدل فردي: "يا أمي.. معدل الامتياز ليس درعاً لأعلّقه، هو ردّ صغير على عالمٍ يريد لنا أن نختفي، كل صفحة درستها كانت تمسك بيدي وتقول: اكملي.. نحن لم ننتهِ بعد"، ما الذي تكشفه هذه الكلمات عن جيل الحرب؟ تكشف أن الوعي هُنا مقاومة، وأن الطفل الذي يسمع القصف ثم يفتح كتابه يفعل ذلك ليثبت ذاته ويحفظ هوية كاملة من الذوبان.

وهنا تكمن الحقيقة التي يفشل الاحتلال في إدراكها، وهي أنه لا يمكن سحق الوعي مهما اشتدّت أدوات الإبادة، يمكن قصف البيوت، لكن لا يمكن قصف الإصرار، يمكن إطفاء الكهرباء، لكن لا يمكن إطفاء الفكرة، يمكن حصار الجسد، لكن لا يمكن محاصرة العقل حين يتشبّث بحقه في أن يكون.

كتبت مرام في رسالة أخرى: "أنا لا أدرس من أجل الشهادة فقط.. أدرس لكي لا يقولوا يومًا إن الحرب انتصرت علينا"، هذه الجملة وحدها تصلح خلاصة لمرحلة فلسطينية كاملة، نجاح مرام هو مكافأة شخصية، وشهادة بأن التعليم في فلسطين ليس مساراً أكاديمياً فقط، إنّما فعلُ بقاءٍ سياسي، وأن مستقبل فلسطين رغم الدم والجوع والدمار، يُكتب بالحبر ذاته الذي سقط على دفاتر الطلاب في الخيام والملاجئ.

قصة مرام تقول إن غزة ليست جغرافيا محاصَرة، قصتها مشروع وعي لا يمكن إبادته، وأن الجيل الذي درس تحت المطر، وكتب تحت ضوء هاتف، ونام على رائحة البارود، هو الجيل الذي سيحمل حق التعليم كحق وطني لا كامتياز فردي.

وفي النهاية.. هذا الجيل لا ينتظر العالم ليعترف به، هو يصنع اعترافه بنفسه، ويقول للعالم بصوت طفلة كتبت لأمها من قلب الجحيم: "نحن نكتب مستقبلنا.. فلا تظنوا أن أحداً يستطيع أن يمحوه".

*المصدر: فلسطين أون لاين | felesteen.ps
اخبار فلسطين على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com