اخبار فلسطين

وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

سياسة

الصيادة الغزية مادلين: عندما أمسك سمكة في شبكتي أشعر أنني انتصرت على كل السجانين

الصيادة الغزية مادلين: عندما أمسك سمكة في شبكتي أشعر أنني انتصرت على كل السجانين

klyoum.com

الكاتب: عيسى قراقع

نحن لا نبحث عن السمك فقط، بل عن إنسانيتنا المهدورة في هذا البحر المحاصر، وعندما أمسك سمكة في شبكتي أشعر أنني انتصرت على كل السجانين، مادلين حولت شواطئ غزة إلى مسرح لكرامة الفلسطيني الذي لا يقهر ، بل أعادت تعريف التضحية بأنها المثابرة والإرادة في زمن الإنهيار، فكل شبكة ترميها مادلين في البحر هي انتصار على القيود، فقد علمها البحر أن الحياة هبة من الله الجبار، وهبة الموج الذي لا ينكسر، وأنه يتعذر فصل الدم عن ملوحة الماء والتراب، البحر هو الحرية الوحيدة المتاحة لنا تقول مادلين، سأموت في البحر فهو حليف الفقراء ومقبرة الشهداء والأجداد القادر على ابتلاع سفن الغزاة والطغاة، في قيعانه ترقد أساطيرنا الفلسطينية، وفي أعماقه أرشيفنا الحي: اللحم والعظم والعرق والملح والدم.

اسمها مادلين محمد كُلّاب سكان قطاع غزة، أصغر وأول فتاة فلسطينية احترفت صيد الأسماك في بحر غزة، وتحولت إلى رمز عالمي للصمود النسوي، صمود غزة وكفاح أهلها تحت الحصار وجحيم الإبادة الصهيونية المستمرة، ورمزا أسطوريا لحملات التضامن العالمية مع شعبنا في غزة، وحمل اسمها السفينة التي انطلقت في مطلع حزيران ٢٠٢٥ من ميناء كاتانيا في إيطاليا باتجاه القطاع وتحمل على متنها المواد الغذائية والأدوية وعددا من الناشطين والسياسيين والفنانين العالميين، بهدف كسر الحصار عن غزة وإيصال المساعدات إلى الجوعى والمشردين والمقهورين والمعذبين تحت وابل القصف الصهيوني ومجازره الدامية، وحملت السفينة شعار: أوقفوا الحصار أوقفوا الإبادة.

لن أصدق غير بحر غزة، طريق الصيادين إلى رزقهم، طريق دلال المغربي إلى حيفا، طريق عروسة البحر في حكايتنا الشعبية، طريق الكنعانيون والفينيقيون من العصر البرونزي إلى القدس، طريق هوميروس في الإلياذة والأوديسة، طريق السندباد في ألف ليلة وليلة، طريق عودة اللاجئين المطرودين من قراهم المهجرة، طريق طوفان الأقصى إلى مدينة عسقلان، طريق الفردوسي في ملحمته الشعرية الشاهنامة الى ايران والعالم، طريق الشاعر معين بسيسو إلى قصيدته التي تحولت إلى قنبلة، طريق الآلهة الغاضبة التي ترى المأساة في غزة والكارثة.

لن أصدق غير بحر غزة تقول مادلين، البحر يحفظ أسرار الضحايا يسترجع جثثهم وأرواحهم، أمواجه تعيد الحياة وتستعيد الذاكرة، البحر لا ينسى، هو الشاهد على العجز والصمت والخذلان، الشاهد على الوحشية والمجازر الجماعية، والتجويع، وصهر البشر بالنيران والقنابل التدميرية.

أنا مادلين الغزية، أنا في البحر، عمري من عمر أسماك البحر، وعمري من عمر الحروب التي شنت على غزة، أشعر بالقوة، قوة البحر، هو صديقي وحارسي الوحيد، علمني أن الكرامة تستطيع أن تواجه المستحيل، أنا في البحر، بحر غزة لا ينام، ولا تصدقوا أنه يطمس الأدلة ويبتلع الجثث، إنه يعيد الضحايا إلى الشاطئ واقفين أحياء، بحر غزة كائن حي يسمع ويستجيب، يغضب ويثور، إن هزمنا الأعداء اليوم، سيغزوهم البحر غدا، البحر لا يهدأ ولا يموت.

أنا مادلين الغزية، أنا في بحر غزة، هنا امتحان للبطولة والجدارة الإنسانية، فيه تتطهر القلوب، ويلتقي الحي مع الميت والعاشق مع الحبيبة، يتحول الفقدان والحزن إلى قوة خارقة تنفجر من صخور البحر والذات، البحر يمشي معنا، يغسل جروحنا، بحر غزة حرية لا حدود لها، فهو ليس مجرد ماء، إنه ذخيرتنا التاريخية والثقافية والجمالية، ساحة المعركة الوجودية للإنسان الفلسطيني، البحر يمسك يدي، يعود بي إلى بيتي في مخيم الشاطئ، أحمل معي موجة وحصى ورملا وسمكاً وأملاً ولؤلؤة نادرة.

مادلين في بحر غزة، اسمها ينتسب في اللغة والمعنى إلى قرية المجدل المهجرة، تقرأ سيرة البحر وأسراره المدفونة، تقرأ عن غزة بوابة التاريخ المتجددة، إرثها الحضاري الذي حولها إلى قلعة عنيدة، تقرأ أن أبا التاريخ المؤرخ هيرودوت اليوناني وصل غزة عبر البحر، وكتب عن مدينة شقت طريق البخور والتجارة والثورات إلى كل المدن الساحلية، فأطلق على البلاد اسم فلسطين وقلبها النابض غزة.

وتقرأ أن القديس هيلاريون مؤسس الرهبنة في فلسطين، غرس صليبه التحرري في رمال غزة، فتحولت الكنيسة إلى مرفأ ومعبد ومدرسة ومئذنة.

تقرأ مادلين على صفحة البحر أن الإمام الشافعي وضع في قطاع غزة مذهبه الخامس والمختلف عن المذاهب الفقهية الأربعة، يدعو أن يتوحد الإيمان مع الأفعال، والأقوال مع الأعمال، وأن يتوضأ كل العباد من ماء النار في غزة.

وتقرأ أن المناضل الغزّي الأسير سليم الزريعي البدوي الأسمر الذي شق الصحراء بعصى وبندقية، وشق بحر غزة بحبة تمر وقارب خشبي، وكان الطائر الوطني الفلسطيني عصفور الشمس دليل موجات الخلايا الفدائية، العين والأذن واليدان والاجنحة والأغنية.

مادلين الغزية ترى أفواج الطائرات والصواريخ والزنانات فوق البحر، انفجارات في البر وفي البحر، اسراب تدمر غزة وتذبح الفقراء والجوعى في مراكز المساعدات التي تحولت الى مصائد للموت، واسراب تدمر ايران بلد كورش الفارسي اول مؤسس تاريخي لمبادئ حقوق الانسان، محرر العبيد ومحرر اليهود بعد السبي البابلي، الطائرات الصهيونية تدمر العراقة والثقافة والانسانية والحضارات، لكنها تقول: سأموت في البحر كي أصبح ملحاً في جراح الأرض، وقد رددت ما قاله الروائي حنا مينة من قلب العاصفة: البحر يعلمنا أن نكون أشداء، أو نكون طعاماً للأسماك، ولكن في البحر حياة لمن أراد الحياة، فالموت والحياة في البحر والبر مادة واحدة.

لن أصدق غير بحر غزة، تقول مادلين فهو الذي يسجن الظالمين ولا يُسجن، يحمي الجوعى ولا يرحم المستبدين والمجرمين والحيتان المفترسة، بحر غزة يملك مفاتيح السجون كلها ويبحر في عيني الحرية، بحر غزة ليس محايداً ولا يحب الانتظار، البحر لا يروض، البحر لا يساوم حفنة طحين ورغيف خبز مغمس بالحديد والذل والدماء والإسفلت بخبز الكرامة والحرية.

لن أصدق غير بحر غزة، كل الكلام خلال حرب الإبادة تحول إلى زبد، هو الوحيد الذي يلامس شواطئ عكا، يحرس الجغرافيا وهويتنا المتجددة، اعشاب الماء رئة تتنفس في الأرض المختنقة، شرايين فلسطين تنبع من البحر إلى أعالي الكرمل والشجر.

بحر غزة ايقاع يسبق القصيدة،اجمل ما خلق الله في هذه البلاد، البحر يعشق ويبكي ويحن ويشتاق، في البحر مدينة في مدينة، جبال واسواق وشوارع وذكريات، بحر غزة بوصلة الحياة الى الحياة في صوت المراكب ومواويل الصيادين على خطوط الماء والنار:

ان هبت الريح قلت لمركبي سيري

وانا صبرت صبر الخشب تحت المناشيري

ناديت يا طير بحق السما العالي

تلم شملي تجمعني بالغالي.

أنا مادلين الغزية، أنا بحّارة البحارين، لا تصدقوا أن جيش الاحتلال اعتقلني، فمادلين هي السفينة والمدينة والمرأة والوطن، المد والجزر والشراع والحورية، الزوارق الحربية الصهيونية لا تستطيع إلقاء القبض على البحر أو محو غزة، مادلين ليست مجرد سفينة أو صيادة، بل كيان ثقافي، هوية تحررية مقاتلة، أنثى الماء والخصوبة والعطاء، مادلين هي المجدلية، العلاقة المقدسة بين أرض غزة والسماء.

*المصدر: وكـالـة مـعـا الاخـبـارية | maannews.net
اخبار فلسطين على مدار الساعة