الحداية لا ترمي كتاكيت: قراءة في التحولات الجيوسياسية وفرص العرب في رسم مستقبل المنطقة
klyoum.com
أخر اخبار فلسطين:
الإفراج عن عيدان..هل من انفراجة توقف الإبادة؟الكاتب: الدكتور محمد عيسى
في ظل الضجيج السياسي العالمي، يبدو أن ما يدور حولنا ليس إلا حالة من التضليل السياسي الممنهج، تقوده قوى كبرى تحاول جاهدة إعادة ترتيب أولوياتها الداخلية والخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. ما نراه من صراعات وتحالفات متغيرة في الشرق الأوسط لا يعكس حقيقة المصالح المحلية بقدر ما يعبر عن أزمة أمريكية عميقة في إدارة العلاقة المعقدة مع الصعود الصيني المتسارع، وهو ما بات يعرف بـ"مأزق التنين".
ورغم هذا الاضطراب، فإن في قلب الأزمة فرصة تاريخية نادرة أمام اللاعبين الإقليميين، وخاصة العرب، لإعادة ترتيب الأوراق وفرض محددات جديدة لرؤية الشرق الأوسط القادم. هذه لحظة محورية تتيح للعرب أن يتحولوا من خانة "المفعول به" إلى "الفاعل"، شريطة أن يتحلوا بوعي سياسي واستراتيجي قادر على استثمار اللحظة بما يخدم مصالحهم الجمعية، لا مجرد التحرك ضمن اصطفافات دولية لا تخدم سوى من يقودها.
أمريكا في وجه التنين: أزمة المركز
الولايات المتحدة تعيش اليوم أزمة مركبة تتعلق بتآكل مركزية الدولة أمام تغول الشركات الكبرى، وتفكك داخلي بين الولايات، وصعود قوى جديدة تشكك في زعامة واشنطن للعالم. ولهذا، فإن شعار "أمريكا أولاً" الذي رفعه ترامب لم يكن مجرد برنامج انتخابي، بل تعبير عن محاولة حثيثة لإعادة المركزية للدولة الأمريكية ومحاربة الهيمنة اللامحدودة للوبيات العولمة والشركات المتعددة الجنسيات التي فككت نسيج الدولة لصالح السوق.
من هذا المنطلق، لن تدعم أمريكا مستقبلاً فكرة تفكيك الدول في المنطقة، بل على العكس، ستسعى للحفاظ على الدول المركزية مثل مصر، السعودية، العراق، وتركيا، لأنها ترى أن اللامركزية - التي غذتها سابقاً عبر مشاريع مثل "الربيع العربي" - كانت أحد الأسباب في تصاعد الفوضى، وتنامي النفوذ الصيني والروسي.
سقوط فكرة الدويلات والإثنيات
في هذا السياق، يتآكل المشروع الذي كان يهدف إلى تقسيم المنطقة على أسس طائفية أو إثنية. فالمصالح الأمريكية اليوم لم تعد تتقاطع مع مشروع "الشرق الأوسط الجديد" كما رُوِّج له سابقاً. بل العكس، بدأت واشنطن تفهم أن القوة الإقليمية والاستقرار النسبي في دول المنطقة، خاصة الدول المركزية، هو حاجز أمام التمدد الصيني في البنية التحتية والاقتصاد، وأداة لموازنة التحالفات الجديدة التي تشكلها روسيا والصين.
العرب أمام الفرصة: فرض محددات جديدة
العرب اليوم أمام فرصة ذهبية لإعادة تشكيل موقعهم في معادلة القوى. لكن هذه الفرصة لن تُهدى، بل تحتاج إلى:
مشروع عربي موحد أو تنسيقي على الأقل، يتجاوز التجزئة، ويركز على الأمن الغذائي والمائي والتكنولوجي.
تحالفات إقليمية ذكية مع تركيا وإيران قائمة على المصالح لا الأيديولوجيا.
إعلام استراتيجي واعٍ قادر على نقل الرواية من موقع التلقي إلى موقع التأثير.
دعم الاقتصاد الإنتاجي وتعزيز السوق العربي المشترك كرافعة استقلال واستدامة.
الخاتمة: لا تنتظروا من الحدّاية أن ترمي كتاكيت!
المشهد العالمي يتغير، ولكن لا يُتوقع من القوى الكبرى أن تتخلى عن نفوذها أو أن تمنح غيرها أدوات السيادة مجاناً. فكما يقول المثل الشعبي: "الحدّاية لا ترمي كتاكيت"، أي أن من يعطيك شيئاً مجاناً لابد أن وراءه مصلحة.
المطلوب اليوم ليس انتظار الهدايا من القوى الكبرى، بل صناعة واقع جديد بأيدينا، حيث يكون للعرب دور حقيقي في تحديد ملامح مستقبلهم، لا مجرد التكيف مع معادلات الآخرين.