غزة ومعنى ان تكون شاهدا على الحقيقة
klyoum.com
أخر اخبار فلسطين:
فون دير لاين: مصر وأوروبا تتقاربان أكثر من أي وقت مضىلم تنته الحرب، لكنها صمتت مؤقتا كي يتكلم الركام وما تحته، توقفت المدافع والطائرات، لكن المعركة الاكثر عمقا بدأت؛ معركة الرواية، معركة على من يملك الحق في القول، بعد كل هذا الدم، طوال عامين من حرب الإبادة والتجويع، كان قطاع غزة اخطر بيئة على الصحافة في العالم؛ اكثر من مئتين وخمسين صحفيا قتلهم جيش الاحتلال بدم بارد، بعضهم استهدف عمدا مع عائلاتهم، لا لذنب سوى انهم حملوا الكاميرا بدل السلاح، لم يشهد التاريخ المعاصر حملة قتل ممنهجة بهذا الحجم، ولم تعرف الذاكرة الانسانية مكانا تحول فيه العمل الصحفي الى فعل استشهادي كما حدث في غزة، ومع ذلك، لم تنجح آلة القتل في اخماد الصوت، بل تحولت الكلمة الى مقاومة، والصورة الى سلاح، والعدسة الى ضمير كوني يتحدى الصمت.
في الفلسفة، تعرف "اخلاق الشهادة" بانها تحمل مسؤولية الحقيقة حتى لو كانت مميتة، وقد جسد صحفيو غزة هذا المفهوم قولا وفعلا؛ فلم يكونوا مجرد ناقلين للحدث، بل كتابا لتاريخه في لحظته، يربطون بين الانسان والذاكرة، بين الموت والمعنى، كانوا يدركون خطر اختفاء الصورة، فاختاروا مواجهة العدم بالكاميرا، فلم تكن الصحافة في غزة فعلا مهنيا فقط، بل ممارسة اخلاقية للوجود، لا يكتفي بان يرى، بل يتحمل عبء ان يقول ما لا يريد العالم سماعه، فتحول من نقل الحدث الى حماية الرواية، ومن معرفة الى التزام اخلاقي امام التاريخ.
ادرك الاحتلال مبكرا خطورة هذه المعادلة، فقتل الصحفيين لم يكن عملا عشوائيا، بل جزءا من استراتيجية اوسع؛ خنق السرد الفلسطيني عند منبعه، وحرمان العالم من رؤية الجريمة، ثم، بعد توقف المعارك، يحاول الان منع الصحفيين الاجانب من الدخول، فهو يعلم ان المراسل الغربي، حين يرى بعينه ما خلفته الحرب، لن تنفع معه اوراق العلاقات العامة ولا بيانات الناطقين العسكريين، اذ يدرك ان الكلمة اخطر من القذيفة، وان الصورة القادمة من عدسة غربية ستنسف روايته، ولا يمكن للمؤسسات الاعلامية الكبرى حجبها، لذلك اختار ان يمنع الرؤية نفسها، وان يغلق البوابة امام العين التي قد تفضحها، ولهذا يسعى الاحتلال بكل قوته الى تأجيل اللحظة، لأنها ستكون لحظة سقوط روايته، وحين يحدث ذلك سيتغير المشهد السياسي كله، ولن تستطيع الحكومات الغربية تبرير تحالفها طويلا مع كيان بات رمزا للإبادة.
لكن هذا المنع يكشف ازمة اعمق، فقدان السيطرة على الرواية، فطوال عقود، اعتمد الاحتلال على تفوقه الاعلامي لشرعنة افعاله، فكانت المؤسسات الدولية تعيد انتاج روايته بوعي او بغير وعي، تمارس ما يسميه نعوم تشومسكي "تصنيع القبول"، اي بناء توافق اخلاقي زائف حول حرب غير أخلاقية، غير ان غزة كسرت هذه الحلقة، فشاهد العالم ببث مباشر ما لم تكن تنقله القنوات الكبرى من قبل، مشاهد لم تأت من وكالات عالمية، بل من صحفيين محاصرين، يعملون بلا كهرباء ولا حماية، سوى ايمانهم بان للحقيقة صوتا يجب ان يسمع.
اصبحت الصحافة في غزة تجربة انسانية وفلسفية فريدة، اعادت تعريف وظيفة الاعلام من وسيلة نقل الى اداة وفعل مقاومة، ومن عمل مهني الى فعل وجودي، فلم تعد تكتفي بوصف المأساة، بل ومواجهتها، وبعد ان سقطت كل انظمة الحماية، صار الصحفي الفلسطيني يكتب التاريخ بدمه، فكلما ضاق المكان على الجسد اتسع الافق امام المعنى.
في خاتمة هذه الجولة، اتضح ان ما جرى ويجري في غزة يتجاوز حدود المكان والزمان، امتحان اخلاقي للإنسانية جمعاء، وللضمير العالمي الذي طال صمته، حتى بدا شريكا في الجريمة، فانكشفت امامنا حقيقة مزدوجة؛ وهي ان الكلمة قادرة على مقاومة الجريمة بقدر ما يمكن للصورة ان تفضحها، وان الصحافة ليست مهنة للحياد بل ساحة للصراع بين الذاكرة والنسيان، بين الانسان وانظمة القتل، وكل ما فعله الاحتلال من قصف للكاميرات، وحصار للشهود، ومنع للمراسلين، لم يكن سوى محاولة يائسة لاحتكار السرد والسيطرة على الوعي، غير ان الزمن لا يكتب بلغة البيانات، بل بلغة الذاكرة، والذاكرة في غزة تنزف ولكنها لا تموت.
هناك، سقطت آخر اوهام الحياد، فصار الصحفي شاهدا ومشاركا، ناقلا ومقاوما، يكتب بدمه شهادة لن تزول، ومن رحم هذه التجربة ولدت فلسفة جديدة للأعلام، لا تقوم على الموضوعية الباردة، بل على مسؤولية القول، وعلى الشجاعة الاخلاقية في تسمية الاشياء بأسمائها، مهما كلف ذلك من ثمن.