#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة
klyoum.com
أخر اخبار فلسطين:
الأورومتوسطي: إغلاق شارع الرشيد و نتساريم مقدمة لفرض واقع جديد(فَلَن أَبرَحَ الأَرضَ حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين) (يوسف: 80)
غزة باقية.. وعد الله وحق الأرض
في قلب المحرقة التي تمزق غزة، حيث تتهاوى البيوت وينزف الأطفال من جراح الحصار والعدوان، يقف أبناء غزة صامدين كجبال لا تهزها الرياح. ليست هذه مجرد قصة مقاومة بشرية، بل ملحمة إيمان ويقين لا تنطفئ، ملحمة تنطق بصدق وعمق الإصرار على البقاء. كيف يستمد هؤلاء الصامدون قوتهم في وجه الموت؟ وما سر هذا الثبات الذي لا يُكسر رغم القصف والدمار؟ إنها قصة غزة التي لن تُرحل، الأرض التي حملت وعد الله في كتابه العظيم، فصمدت رغم كل المؤامرات والاحتلالات، وستظل باقية بحول الله وقوته.
قرر الكابينت احتلال غزة بكل قسوة، وتهديد نتنياهو بتهجير أهلها يأتي كصفعةٍ في وجه التاريخ والكرامة. لكننا نقولها بثباتٍ لا يلين: لن أبرح الأرض! هذا الوطن يسكن في العروق، وأهلها صامدون كالصخور، لا يهابون الحصار ولا القصف. مهما اجتاحتهم جيوش الظلام، تبقى غزة نجم الصمود، وباقية بفضل الله، وبإرادة الأبطال الذين لا تُكسر عزيمتهم. الأرض لنا، والعودة حتمية.
على مدار نصف قرن من المحاولات المتكررة، خُططت مؤامرات التهجير وُرسمت خرائط التغيير بالقوة، من سيناء إلى "صفقة القرن" ومن المدن الإنسانية الزائفة إلى التوطين القسري، لكن شعب غزة، كالجبل الصامد في وجه الريح، رفض أن يُجتث من جذوره، فصمد بصلابة الإيمان وعزيمة لا تنكسر، رافعًا راية الأرض والكرامة، يصرخ بملء حنجرته: هذه الأرض لنا، وسنبقى فيها مهما تآمرت الأقدار، لأن الحق لا يموت، والكرامة لا تُهان، وغاية الظلم هي الزوال، وغزة باقية، ستظل تنبض بالحياة حتى يكتب الله نصرها العظيم، وتعود الأرض لأهلها الأحرار.
في محرقة ابتلعت الأخضر واليابس، وقف أبناء غزة شامخين على أطلال الألم والدمار، متمسكين بثبات لا يلين، يصنعونه من رحم الإيمان واليقين. لم يكن الثبات مجرد اختيار بشري، بل هبة من الله تبارك وتعالى، وقوة تضيء في ظلمات المحنة. بين أنقاض البيوت المهشمة وصدى القذائف، ارتفع صدى آيات الصبر والاحتساب، ملهماً القلب بأن لا ملجأ إلا الله، وأن عزيمتهم أكبر من كل نار وأقوى من كل قهر.
لم يغادروا أرضهم، رغم السيوف التي تلتف حولهم، وصاروا جسدًا واحدًا ينبض بالحياة، ينادي بصوت عالٍ:
"هنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون، ولعسقلان عائدون."
منذ مسيرتهم الأولى كان هتافهم ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَلَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ (المائدة: 21)، ومنذ مطلع الإسلام، واجه النبي ﷺ محاولات الإخراج من الأرض: ﴿وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليُخرجوك منها﴾، وهي سنة مجرمة احتلالية احلالية تكررت في تاريخنا، كما حدث منذ قرن بحق شعب فلسطين بالاستيطان والنكبة، ويمارسها الاحتلال الصهيوني اليوم بأبشع صورها في غزة.
طوفان الأقصى أعاد كشف نواياهم في تهجير أهل غزة، ومن ثم تحقيق حلمهم باحلال هيكلهم المزعوم مكان الأقصى تتويجا للتهويد المستعر يوميا، وإعادة تشكيل المنطقة عبر تهجير جماعي. لكن كما فشلوا في إخراج النبي ﷺ، سيفشلون في اقتلاع غزة ومن ثم الضفة الغربية، لأن الله صاحب الوعد في هذه الأرض، يرعى أهلها ويثبّت مجاهديها، وقد وعد بأن من يسعى لإخراج أهل الأرض منها، لن يلبث بعد تهديده إلا قليلاً.
واليوم، قسم غزة كلها في محرقة أكلت الأخضر واليابس، وشعارهم: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17). هتاف داخلي عميق ينادي بعدم مغادرة البيت، صاحبنا في كل المراحل في أيام وليالي المحرقة. كانت هناك معركة داخل كل واحد من أبناء غزة بين الثبات في المكان والبحث عن الأمان الذي تدّعيه عصابات الإبادة، ولا أمان في أي مكان في النهاية ﴿يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ (النساء: 78)، ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم﴾ (آل عمران: 154).
والثبات من الله، وليس مجرد مهارة بشرية. في ظروف مركبة، اتخاذ القرار في لحظة مرتبكة ليس سهلاً، خاصة عندما يكون محيطك، الممتد على مد البصر، من عمارات وجيران وأهل وأقارب، قد اختفى ولم تعد تجد منهم أحدًا.
فلسطين والقدس وعسقلان وغزة تسكنني حتى حين كنت في مرحلة الدراسات العليا في بريطانيا، لم أر لها بديلاً رغم توفر فرص مريحة خارجها، ورغم قسوة غزة وأيامها ولياليها تحت الحصار والعدوان، وفي ظل الانتفاضات والاغتيالات حتى قبل 7 أكتوبر والمحرقة؛ ورغم خشونة أهلها وشظف العيش وضيق الرزق فيها؛ فلا أكاد أخرج منها لعمل قصير حتى أشتاقها.
وحين اشتعلت النيران في كل مكان، غادر من حولنا جميعًا تقريبًا أماكن سكنهم ويمّموا شطر الجنوب، بل إن هناك قلة دفعت آلاف الدولارات رشوة عند معبر رفح لمن يتحكمون فيه من الجانب الآخر للخروج من غزة. وكان الناس يقولون: "نياله اللي معه جنسية ثانية"، خاصة لو كانت لدولة أجنبية، ومنهم بعض أولادي، الذين رغم ذلك ما برحوا الأرض، ورابطوا حد الشهادة فيها مع أهلهم وشعبهم في المحرقة، رغم يُسر خروجهم وخروجي معهم إلى دولة أوروبية.
بين جراح الأرض التي تتألم، تنمو بذور النصر الصامتة، فلا موت يقدر على إخماد عزيمتهم، ولا ظلم يوقف نهر الحياة الذي يسري في عروقهم، فغزة باقية، والشعب الفلسطيني صامد، يحمل راية الحق حتى النهاية. إنها ليست فقط غزة اليوم، بل كل فلسطين التي تنبض في قلوب أبنائها، التاريخ هنا يكتب بدماء الشهداء، والذاكرة لا تنسى، والحق لا يُهزم، فكل حجرٍ وكل شجرةٍ في هذه الأرض تحكي قصة صمودٍ وإرادة لا تقهر.
وفي تلك اللحظات العصيبة، حيث تشتد المحنة، يلتجئ الإنسان إلى ركنه الروحي، يتوجه إلى ربه بدعاء يفيض صدقًا وإخلاصًا، يعلم أن بعد العسر يسرا، وأن الفجر ينتظر أن يعلن ولادة حياة جديدة على هذه الأرض المباركة.
بقينا بفضل الله تبارك وتعالى يسكننا هتاف عميق: "هنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون، ولعسقلان عائدون"، فـ ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ﴾ (يوسف: 80) المقدسة حتى ﴿لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ (الأنفال: 42).