اخبار فلسطين

وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

سياسة

من رفح إلى المنفى: كيف تُعيد إسرائيل إنتاج النكبة بمراكب جدعون

من رفح إلى المنفى: كيف تُعيد إسرائيل إنتاج النكبة بمراكب جدعون

klyoum.com

الكاتب:

إسماعيل جمعة الريماوي

في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تتكشّف ملامح خطة أكثر خطورة من مجرد عملية عسكرية، خطة تحمل اسمًا ذا مغزى توراتي – "مراكب جدعون" – لكنها في جوهرها ليست سوى غطاء سياسي لمرحلة جديدة من مشروع الترحيل القسري. فإسرائيل، عبر سياسة القصف المكثف وتضييق الخناق على المدنيين، لم تكن تستهدف فقط إنهاك المقاومة، بل إعادة تموضع السكان داخل رقعة جغرافية محاصرة في أقصى الجنوب، تمهيدًا لتحويلهم من واقع سياسي ديموغرافي ثابت إلى "كتلة بشرية قابلة للنقل"، أي شعب مرشّح للتهجير خارج الحدود ، إن عملية "مراكب جدعون" بهذا المعنى ليست مجرد حملة حربية، بل هي امتداد مباشر لنظرية "التحكم بالأرض من خلال التحكم بالسكان"، حيث يصبح الحسم العسكري وسيلة لإنتاج مشهد جديد: غزة بلا مقاومة، بلا كثافة سكانية، وربما بلا فلسطينيين، هذا التحول النوعي في العقيدة الأمنية الإسرائيلية يُعيد تعريف أهداف الحرب، من الردع إلى الإزاحة، ومن السيطرة المؤقتة إلى تفريغ الأرض وإعادة هندستها سياسيًا وجغرافيًا بما يخدم مشروع نتنياهو وائتلافه من اليمين الصهيوني المتطرف على أنقاض القضية الفلسطينية.

مع كل تصعيد عسكري جديد في قطاع غزة، يتضح أن العمليات الإسرائيلية ليست مجرد حرب ضد فصيل مسلح، بل هي حرب ممنهجة تستهدف الوجود الفلسطيني نفسه ، فمنذ بداية العدوان الحالي، تبنّت إسرائيل استراتيجية التهجير التدريجي، حيث نقلت السكان قسرًا من شمال القطاع إلى وسطه، ثم إلى الجنوب، والآن تضعهم في مصيدة رفح، حيث يتعرضون لحصار خانق وقصف متواصل، في مشهد يعكس بوضوح سياسة إسرائيلية تستهدف تفريغ غزة من سكانها. إن توسيع العملية العسكرية ليشمل جنوب محور موراج، بالتزامن مع التصعيد العنيف في رفح، ليس مجرد إجراء عسكري، بل هو خطوة مركزية في تنفيذ مخطط الترحيل الذي كشفت عنه وثائق رسمية وتسريبات وتقارير متعددة، تُظهر أن إسرائيل تعمل على تحويل القطاع إلى بيئة غير قابلة للحياة، تدفع الفلسطينيين نحو خيار واحد: الرحيل.

هذا التصعيد لا يمكن فصله عن وثيقة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية التي نُشرت في 13 أكتوبر 2023، والتي دعت بشكل صريح إلى "نقل سكان غزة إلى شمال سيناء"، معتبرة ذلك "الحل الاستراتيجي المفضل لإسرائيل". هذه الوثيقة، التي نشرتها عدة وسائل إعلام من بينها الجزيرة، لم تكن مجرد فكرة نظرية، بل انعكست على الأرض من خلال عمليات تهجير ممنهج بدأت في الشمال، ثم انتقلت إلى الجنوب، والآن تُنفّذ بشكل أكثر شراسة في رفح. تصريحات المسؤولين الإسرائيليين لم تترك مجالًا للشك حول النوايا الحقيقية وراء هذه العمليات العسكرية؛ إذ أعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش عن تقدم خطة تهجير سكان غزة، كاشفًا عن تشكيل وحدة داخل وزارة الدفاع لتنظيم عمليات الترحيل، فيما أكد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير أن "الحل الوحيد هو تشجيع هجرة الفلسطينيين".

توسيع العمليات العسكرية في قطاع غزة يخدم هذا المخطط عبر تكتيكات متعددة، أبرزها تدمير البنية التحتية، واستهداف مخيمات النزوح، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، مما يحوّل غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش. صحيفة الشرق الأوسط كشفت أن إسرائيل تدرس "سياسات الترحيل الناعم"، عبر فتح معابر وممرات خروج نحو سيناء أو عبر البحر، مع تقديم حوافز مالية لمن يغادر، وهو ما يتوافق مع تحركات لوبيات صهيونية داخل واشنطن، تعمل على الترويج لمشاريع إعادة توطين الفلسطينيين تحت غطاء "الحل الإنساني".

وتسعى إسرائيل في الحملة البرية التي تنوي القيام بها قريبًا إلى جمع السكان من كل قطاع غزة في جنوب محور موراج، ثم استهدافهم بالقصف والتجويع، هذا ليس مجرد انتقام عسكري، بل هو أداة سياسية لتحقيق مشروع الترحيل الذي يسعى إلى إعادة رسم الخريطة الديموغرافية لقطاع غزة، وتحويله إلى كيان فارغ من سكانه، ليصبح إما تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة أو خاضعًا لواقع جديد تفرضه المصالح الإقليمية والدولية، ومن ثم إعادة مشاريع الاستيطان فيه. هذا المخطط، الذي يتكرر اليوم بأساليب أكثر وحشية، لا يختلف في جوهره عن نكبة 1948 أو مجازر التطهير العرقي في اللد ويافا، لكنه يُنفّذ هذه المرة تحت غطاء "الشرعية الدولية" و"محاربة الإرهاب"، وعلى سمع العالم وبصره من دول عربية وعالمية، بينما نرى السلطة الفلسطينية وكأنها غير معنية بما يجري، حيث يواجه الفلسطينيون ككل، في الضفة الغربية وقطاع غزة، أحد أكبر المشاريع الاستعمارية في تاريخهم الحديث.

إن ما يجري في غزة ليس مجرد فصل جديد من العدوان العسكري، بل هو تطبيق عملي لخطة إسرائيلية بعيدة المدى تهدف إلى تفريغ الأرض من أصحابها، وفرض واقع ديموغرافي وسياسي جديد يخدم المشروع الصهيوني. فالقصف والتجويع ومنع الإغاثة، ليست أدوات حرب فقط، بل أدوات تهجير قسري يتم تمريرها في ظل صمت دولي وتواطؤ إقليمي. إن صمت المجتمع الدولي، وعجز المؤسسات الأممية، وغياب الموقف العربي الحاسم، كلها عوامل تشجع إسرائيل على الاستمرار في هذا المسار التدميري. ومع غياب استراتيجية فلسطينية عربية موحدة لمواجهة هذا الخطر الوجودي، تصبح الحاجة ملحّة لإعادة صياغة مشروع وطني مقاوم، يعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في الأرض والعودة، ويُفشل مشروع التهجير الذي يهدد بتكرار نكبة جديدة.

*المصدر: وكـالـة مـعـا الاخـبـارية | maannews.net
اخبار فلسطين على مدار الساعة