«الخاتمة المضمَرة لحقبة النّقد الورقي.. ألا هل بلّغت؟.. اللهم فاشهد!»
klyoum.com
أخر اخبار الكويت:
أجيليتي تستكمل الاستحواذ على شركة أميركية بـ305 ملايين دولارالتاريخ، لمن يقرأه بعينٍ بصيرة، ليس تتابعًا عشوائيًّا من الوقائع، بل هو سطور تتردّد أنغامها بأوزان مختلفة. ومن هنا، فإن المتأمل في اقتصاد العالم وسياساته اليوم، لا يسعه إلا أن يستشعر أن تحوّلًا عميقًا يتهيأ في الأفق، تحوّلًا يذكّرنا بما جرى قبل نحو نصف قرن، حين ارتجّت أركان النظام النّقدي العالمي مع ما سُمّي بـ«صدمة نيكسون»، إلّا إن بادرت الأمم ذات العملات الأثقل وزنًا والاقتصادات الأرسخ عودًا إلى وفاقٍ على إصلاحات نقديّة عميقة، وهو أمر مستبعد، فإن هذا العقد قد يُسطَّر في دفاتر التاريخ بوصفه الخاتمة المضمَرة لحقبة النّقد الورقي «Fiat». فهل من متعظ؟
تكرار طباعة النّقد.. أدوات متجددة، ولبّ الممارسة واحد
لقد شهدنا، أخيرا، أحداثًا متتابعة، توالت كالمطر الغزير. التضخم ارتفع في موجات متلاحقة، ثم تباطأ بعد أن بلغ مستويات لم يعرفها العالم منذ عقود. غير أنّه لم يتراجع إلى حيث كان قبل الجائحة، بل بقيت الأسعار مرتفعة تثقل كاهل الإنسان، وتُضعف منسوب الطمأنينة في النفس. وما هذا تحليلًا عابرًا، بل هو ما أثبتته تقارير المؤسسات الدولية التي رصدت أنّ التضخم «الأساسي» أشد عنادًا من التضخم «الرئيسي» العابر.
ولم تقف المسألة عند الأسعار، بل تجاوزتها إلى تسييس النّقد العابر للحدود. إذ رأينا احتياطيات دولة كبرى تُجمَّد، وعوائدها يُتناقش في أمر التصرف بها، فإذا بمعنى «الأصل الآمن» يهتز من جذوره، وإذا بـ«المخاطر السيادية» تُعاد صياغتها من جديد. فأخذت المصارف المركزية تتزاحم على شراء الذهب في عامين متتاليين، ولا يزال الإقبال مستمرًا.
ثم تدفّقت المديونيات، عامةً كانت أم خاصة، وفي مقدمتها الأمريكية، تصعد كأرقامٍ فلكية تبرَّر باستهلاكٍ مسرف لا بإنتاجٍ مثمر، وتعلو نسبها حتى جاوزت معدلات نمو الناتج المحلي ذاته. فأضحت استدامة المالية أشبه بعبءٍ مرهونٍ في أعناق الأجيال المقبلة، إذ يُطلب منها أن تسدّد أثمان ديونٍ لم تكن هي المقترضة لها.
وما لبثت وكالات التصنيف الائتماني أن زادت الطين بلّة، وهي تُخفّض تصنيفات دولٍ كبرى وتنذر غيرها. فالثقة، وهي عماد نظام النّقد الورقي، صارت تسعل وتختنق عند كل خبر جديد. أضحى اليقين المالي كالزجاج، يتصدّع مع أول طرقة.
وفي هذا العصر السريع، زاد الأمر هشاشةً المصرفية الرقمية التي صارت تنتقل عدواها بسرعة البرق. إشاعةٌ تُبثّ على سلك الضوء، فإذا هي تتحوّل في ساعات إلى موجة سحوبات مصرفية، لا يدركها المنظِّم، إلا وقد وقع الفأس في الرأس.
هنا، لا مناص لنا من أن نستحضر ذاكرة عام 1971، ذلك العام الذي هزّ أركان العالم المالي حين خرج الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون» على الملأ معلنًا وقف تحويل الدولار إلى ذهب. كان المشهد يومها أشبه بصفعة باغتت وجه التاريخ، لا لأن القرار مفاجئ فحسب، بل لأنه جاء بمثابة إعلان عن موت عهدٍ كامل من الانضباط النّقدي الذي حكم العالم منذ «بريتون وودز».
لقد تراكبت الأسباب، بدءًا بواشنطن وهي تسعى لتغطية كلفة حرب فيتنام المستعرة، حين أغرت نفسها بطباعة ما يفوق رصيدها من المعدن الأصفر. أوراق تتكاثر، وذهب لا يزداد، حتى أخذ الحبل الذي يربط الورق بالمعدن يتهاوى خيطًا بعد خيط. ومع مرور الوقت، أخذت الثقة تتصدّع، وارتفعت قيمة الذهب مقابل الدولار في الأسواق الأوروبية، ورفعت دول كبرى صوتها مطالبةً باستبدال ما تملكه من أوراقٍ بذهبٍ ملموس. فلما جاء أوان الوفاء، لم يجد الفدرالي في خزائنه ما يفي بالعهد، فانقطع الرباط الذي كان يشدّ الورقة بالمعدن، فإذا بالعالم على أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة شعارها «الثقة وحدها».
وما أشبه الأمس باليوم، إذ يُعاد المشهد ذاته بوجهٍ مختلف: طباعة للنقد، لكن بأقنعة سياسية وعلل مالية أخرى، ليكون الحصاد ذاته في المآل. فكما هبط الدولار يومًا أمام الذهب، أو بالأحرى صعد الذهب أمام الدولار، تتكرر الحكاية اليوم تحت مسمّيات متجددة، وإن بقي لبّ الممارسة النقدية واحدًا.
الأنظمة النّقدية.. بين مصارع تقييد الإنفاق وسطوة التضخم
ولكي نستبين مآل الطريق، لا بدّ أن نقف عند الفارق الرئيس بين النّقد السلعي المقترن بالذهب، والنّقد الورقي الذي لا يسنده إلا خيط الثقة. فالأول، بما فيه من معدنٍ صُلبٍ مخزون، كان كالقيد الذي يربط يد الحكومات، فلا يُمكّنها من الإفراط في الإنفاق إلا بقدر ما تملك من غطاء حقيقي. وقد منح ذلك الانضباط للنظام النّقدي صلابةً تشبه صلابة الجبال، لكنه في الوقت ذاته ضيّق مسالك النمو، إذ لم يكن الذهب يزداد بإيقاع يوازي طموحات الأمم ولا حاجات الشعوب المتسارعة.
أما النّقد الورقي، فقد جاء كريحٍ هادرة أطلقت يد الدول لتطبع ما تشاء من أوراق، فبدا في أعينها وكأنه عصا سحرية قادرة على تمويل الحروب، وتسكين الأزمات، وتحريك عجلة الاقتصاد ساعة تشاء. غير أن تلك المرونة، التي بدت في ظاهرها نعمة، حملت في باطنها بذور نقمة؛ فإذا غابت الحوكمة الرشيدة، وإذا استُخدمت الطباعة دون حساب، تحوّلت الأوراق إلى نيرانٍ تأكل القوة الشرائية، وانفتحت أبواب التضخم والديون كما تنفتح السدود حين تنكسر.
مقاطع التبصّر.. ملامح كبرى في أفق النّقد الورقي
وإذا نحن جمعنا هذه الخيوط المتناثرة، وتأملناها بعينٍ فاحصة، أمكن لنا، على سبيل التبصّر لا التنبؤ، أن نلمح في أفق النظام الورقي خمس ملامح كبرى، قد تُشكّل مستقبل النّقد. هذه التوقعات ليست يقينًا، ولكنها كالظلال التي تسبق قدوم القوافل، دلائل على أنّ المسير قادم، وأنّ الحكيم من قرأ العلامات قبل أن يُطرق الباب:
أولًا - تنوّع بطيء في خرائط الاحتياطيات الدولية: ليس المقصود هنا انهيارًا مدوّيًا لهيمنة الدولار، فهو ما زال أعمق العملات نفوذًا، ولكنه قد لا يبقى المتفرّد الأوحد كما كان. فالزمن كفيل بأن يُدخل إلى الحلبة منافسين من عملات أخرى، صينية كانت أو أوروبية أو حتى إقليمية.
ثانيًا - استمرار الميل نحو الذهب: ذلك المعدن الذي قاوم التقلبات، وأثبت في كل أزمة أنه الملاذ حين تفرّ الناس من الورق. وإذا اشتدت الأزمات السياسية أو الاقتصادية، لن يجد الناس ولا الدول أمانًا إلا في قبضته الصلبة. فالذهب، برمزيته القديمة، يظل كالعمود الفقري الذي يعود إليه الجسد كلما وهن.
ثالثًا - تزايد العملات الرقمية السيادية: وهي تجربة جديدة تسعى الدول من خلالها إلى السيطرة على المستقبل كما سيطرت على الورق بالأمس. هذه العملات، بخلاف نظيراتها الخاصة المتقلبة، ستجد دعم الحكومات ومباركة البنوك المركزية، خاصة في التسويات العابرة للحدود، حيث السرعة والشفافية هما القانون الجديد.
رابعًا - تسارع العدوى المالية في الطوارئ: لم يعد السؤال اليوم: «هل تقع العدوى؟» فذلك صار أمرًا مفروغًا منه، وإنما السؤال الأشد خطورة: «كم من الوقت يحتاج مصرف كي ينكسر؟». ففي عصر سرعة الضوء، قد يتحوّل همس على سلك الضوء إلى موجة سحب جماعي للأرصدة خلال ساعات، فيسقط مصرف كان يُظن أنه صرحٌ راسخ.
خامسًا - نشوء طرق جانبية للمدفوعات عبر الكتل الإقليمية: فما عاد العالم يطمئن إلى مسار واحد للمدفوعات، يخشى أن يسدّه نزاعٌ أو يُعطّله عقاب. لذلك بدأت التجارب تتكاثر في مشاريع ربطٍ وتسوياتٍ فورية بين دول الإقليم الواحد، أشبه بإنشاء طرق فرعية تحمي القوافل حين تُغلق الطريق الكبرى. هي ليست تمردًا على النظام، بقدر ما هي سعي لتوزيع المخاطر، بحيث لا يبقى مصير التجارة رهن قرارٍ واحد أو قناةٍ واحدة.
أركان التوصية.. رؤية تؤطّر الأرقام
من هنا، فإنّ دول الخليج العربية تقف اليوم على عتبة مرحلة انتقالية كبرى، لا يُطلب منها أن تُدقّق في تفاصيلٍ تقنية باردة، بقدر ما يُنتظر منها أن ترسم بوصلة الاتجاه بحكمةٍ وبُعد نظر. فالمسألة ليست في الأرقام وحدها، بل في الرؤية التي تؤطّر تلك الأرقام، وتحوّلها من عوائد عابرة إلى ثروةٍ مصونة:
أولًا - بناء إطار مالي مضبوط طويل الأمد: إنّ إنفاق اليوم لا ينبغي أن يكون رهين اللحظة، بل مقيدًا بقدرة الغد. فالموازنات التي تقوم على عوائد مستدامة لا على تدفقات ناضبة، هي التي تضمن أن يبقى الغيث متصلًا، لا عاصفةً تنقضي. وعليه، بات لزامًا أن يُعاد رسم مسار الإيراد النفطي ليجري أولًا في مجرى الصندوق السيادي.
ثانيًا - حوكمة الصناديق السيادية على معيار عالمي: فالشفافية والمساءلة ليستا للزينة في تقاريرٍ تُعلّق، بل هما حصن الثروة ودرعها، تُقلّلان من كلفة المخاطر، وتزيدان من قبول الاستثمار عبر الحدود.
ثالثًا - تنويع مخازن القيمة: ليس الذهب وحده، وإن كان ملاذًا، بل إلى جانبه أصول حقيقية تولّد دخلاً: طاقة متجددة، وصناعة متقدمة، وزراعة ذكية، ولوجستيات عابرة للقارات.
رابعًا - تعميق شبكات التسوية الإقليمية: التجارة كالنهر، إن سُدّ مجراه الرئيس، احتاج إلى قنوات بديلة كي لا تجف الأرض. والاستثمار في أنظمة دفع وتسوية عابرة للحدود بالعملات المحلية، وربط المصارف المركزية الخليجية بصلات وثيقة، هو صونٌ للسيولة من أن تُحتجز رهينة في مسارٍ واحد.
خامسًا - الاستثمار في الإنسان: ذلك الأصل الأمتن، والعملة التي لا تفقد قيمتها. إنّ المعرفة والعمل هما الذهب الحقيقي الذي لا يصدأ. فإذا وُجّه التعليم إلى العلوم والهندسة والإدارة، وإذا استُوطنت التقنية المالية، ونشأت شركات قادرة على تنمية ناتج الصادرات، غدا النّقد خادمًا لا سيّدًا، وغدا المستقبل ميراثًا محفوظًا لا عبئًا مُثقلًا.
ليس القصد أن نقول إن «الصدمة» آتية لا محالة؛ فالغيب لا يعلمه إلا الله. لكن من الحكمة أن نقرأ الظلال قبل أن تطأ أقدامنا عتبات البيوت. فالنّقد الورقي عهدٌ على المستقبل، والعهد لا يُصان بالشعارات بل بالقدرة المنتِجة، وبحوكمةٍ رصينة، وبشفافيةٍ تطفئ الذعر. فإن جعلناه وسيلةً لا غاية، وأقمنا بين حاضرنا ومستقبل أبنائنا ميثاقًا صلبًا، كنّا قد أخذنا بالأسباب ثم توكلنا على الله: «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ». الأوطان لا تُبنى بوفرة الأوراق ولا بكثرة الأرصدة، بل بما تُنتجه العقول وما تُشيّده السواعد. وإذا كان النّقد الورقي عهدًا هشًّا، فإنّ الإنسان هو العهد الأمتن، من غاب عن الاستثمار فيه، لم يُقصّر في حق ماله وحده، بل قصّر في حق مستقبله بأسره.
ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد...
عبدالله السلوم