اخبار الكويت

جريدة القبس الإلكتروني

أقتصاد

«الاقتصاد الثلاثي».. حين يُبنى المجد لبنةً لبنة

«الاقتصاد الثلاثي».. حين يُبنى المجد لبنةً لبنة

klyoum.com

حين تعصف الرياح وتعلو الأمواج، لا تنجو السفن إلا إن تهيّأت لها يدٌ حاذقة وقلبٌ بصير؛ بربّان يقرأ الأفق كما يُقرأ الكتاب المفتوح، وبخرائط رُسمت على مهلٍ وصبر، وبأشرعة لا تعرف الانكسار بل تُحسن مصافحة العواصف وتطويع شدّتها. وهكذا هي الكويت اليوم؛ واقفة عند مفترقٍ حاسم، تتقابل فيه ثلاثة دروب متباينة: ماضٍ أُقيم بنيانه على ريع النفط، وحاضرٍ شرع – وإن بخطوات متأنية – في رحلة الإصلاح وكسر قيود البيروقراطية، ومستقبلٍ تُجسّده رؤية 2035 كلوحةٍ باذخة الألوان معلّقة على أفق بعيد.

في مثل هذا الموقف لا تكفي الأماني الحالمة، ولا تُجدي الخطب الرنّانة التي تُرضي الأسماع ولا تُشبع الواقع؛ بل يُطلب استراتيجية متينة تُحصّن الدولة من هزّات التحوّل، وتُبقيها شامخة مهما اضطربت الأسواق، أو انحدرت أسعار النفط، أو تبدّلت تحالفات السياسة في مسرح العالم.

ومن رحم هذا التحدي العسير انبثقت خاطرة استراتيجية «الاقتصاد الثلاثي»؛ ليست ترفاً فكرياً يُقال للتزيين، ولا حلماً سياسياً عابراً ينطفئ مع تبدّل المواسم، بل هي استجابة واقعية لضرورات المرحلة، تستند إلى منطق التدرّج، وتتشبث بسنن الكون التي تقضي بأن كل بناء راسخ يبدأ بلبنة أولى.

وخلاصة هذه الرؤية أن يُقسَّم الاقتصاد الكويتي إلى ثلاثة اقتصادات متوازية، لكل منها مكانه الذي ينهض على أرضه، ووظيفته التي يؤديها. ثم تمضي هذه الاقتصادات في مساراتها المتكاملة حتى تلتقي جميعها عند الغاية الكبرى في عام 2035، لتُشكّل جسداً اقتصادياً واحداً، أصلب عوداً، وأوسع أفقاً، وأقدر على الثبات في بحرٍ لا يهدأ، كالسفينة التي نجت من عصف الريح لا لأنها أوتيت القوة وحدها، بل لأنها أُحسن تدبيرها وأُتقن إعدادها.

«كويت المستقبل».. مرافئ الغد المشرق

هي محافظة تجارية وصناعية وسياحية، تُفصل إدارياً وجغرافياً عن جسد الدولة الأم، لتدار بهيئة مستقلة تحت مظلة مجلس الوزراء، مفوَّضة بسلطات واسعة تمكّنها من تشكيل كياناتها القانونية، وسنّ تشريعاتها، وإقرار لوائحها، وإدارة شؤونها ككيان ناشئ، لا يقيّده ماضي البيروقراطية ولا تكبّله تعقيدات الروتين. الغاية من إنشائها أن تُبنى عند «نقطة الصفر»؛ نقطة نقية طاهرة من شوائب الأمس، تُرسي أسسها بصفاء رؤية وبُعد نظر. فإذا كانت أمم كثيرة قد سبقتنا منذ عقود في إقامة مناطق حرة وابتكار بيئات استثمارية مرنة، فإن للكويت اليوم فرصة نادرة لتجعل من «كويت المستقبل» مختبراً حيّاً يجرّب أحدث القوانين ويطبق أرقى النظم، ثم يعيد ضخ ثمار نجاحه في شرايين الاقتصاد الوطني، كدم جديد ينعش الجسد ويقوّي البنيان.

تُموَّل هذه المحافظة من الصناديق السيادية، لتكون أيقونة استثمار مدعومة بمال الدولة وخبرتها. ويُعاد استثمار ثلاثة أرباع أرباحها في عمرانها الداخلي وتنميتها المتواصلة، فيما يُودَع ربع أرباحها في تلك الصناديق كعوائد استثمارية. هناك، تُمنح الحوافز لا على سبيل المجاملة أو الولاء، بل بمقدار ما يحققه المشروع من تعزيز لناتج صادرات غير نفطية حقيقية تضيف إلى رصيد الأمة، ويُعامل المستثمرون على أساس الكفاءة والإنتاج لا على أساس المرجع أو الهوية؛ فالميزان ميزان العمل، والميزان لا يحابي.

أما العقارات، فإنها تُدار بعقود انتفاع طويلة الأمد، لا بملكية فردية؛ ليبقى الأصل للدولة وتبقى السيادة لها، ضمانةً لاستمرار السيطرة الوطنية على الأرض، وحصانةً لاتجاهاتها من عبث المضاربين وتقلّبات الأهواء. هكذا تُشيَّد «كويت المستقبل»، لا كمساحة جغرافية فحسب، بل كفضاء جديد للعقل والتجربة، ميدانٌ تُختبر فيه إرادة التغيير، ويُبنى فيه اقتصاد لا يُراد له أن يكون امتداداً لماضٍ مثقل، بل جسراً إلى مستقبل أشد صلابة وعدلاً.

«كويت التحول».. معبر الانتقال الرصين

هي محافظة شبه منفصلة، تقع خارج النطاق العمراني، تنشأ بتمويل حكومي راسخ، لا على عجل ولا على ارتجال، بل على دراسة عميقة تُراعي الجدوى وتحتكم إلى الحكمة. غايتها أن تستقطب المشاريع القائمة في «كويت الحاضر»، تلك التي تمتلك القدرة على تعزيز ناتج الصادرات غير النفطية نسبيا، لكنها تعجز عن مقارعة عمالقة «كويت المستقبل» في حلبة المنافسة العاتية. وهنا يتجلّى الحل الوسط، الذي لا هو بالمتراخي كالراهن ولا بالباذخ كالمستقبل: بيئة أعمال أرقى من «الحاضر» بما يتيحه من حوافز ومرونة، لكنها دون بريق «المستقبل» الذي صيغ ليكون ساحة التنافس الدولي بلا قيود.

وتتولى زمام إدارتها هيئة مستقلة، همّها أن ترفع توصياتها إلى الوزارات المعنية، فتُعينها على تعديل القوانين تدريجياً، وتضييق الهوة شيئاً فشيئاً بين الحاضر والمستقبل. وبهذا يغدو اقتصاد التحوّل جسراً رحباً، يهيئ العابرين له إلى وجهة أخرى، فيسير المستثمر فوقه مطمئناً غير متهيّب، فلا يُفاجأ بقفزة مباغتة تلقي به من اقتصاد ريعي مترهّل إلى اقتصاد تنافسي صارم، بل يجد نفسه في رحلة انتقال متأنية، تدرّجية، تُمهّد له الأرض وتفتح له الأفق، وتُهيئه لمناخ جديد، أصلب عوداً، وأعدل قسطاً، وأكثر قدرة على احتضان طموحه وإنتاجه.

إنها محافظة الانتقال لا الانقطاع، والتدرّج لا الفجوة، بها تُختصر معاناة الصدمات، ويُمنح الاقتصاد فرصة التنفس قبل الغوص في أعماق التحدي الكبير. فهي، على نحو من القول، المعبر الآمن بين ماضٍ آلف الاعتماد على الريع، ومستقبلٍ يفرض شروط التنافس والإنتاج.

«كويت الحاضر».. عبء الماضي وفرصة الإصلاح

هو الاقتصاد الذي نحياه اليوم، قائمٌ بما تراكم فيه من نظمٍ وأعراف، ومدارٌ كالمعتاد بيد مجلس الوزراء. غير أنّه، في هذا المنعطف التاريخي، لم يعد يكفيه أن يسير على إيقاع العادة؛ بل بات مطالباً بأن يُنصت مليّاً إلى توصيات الهيئتين الأخريين، وأن يتأملها بعين الجدية لا بعين المجاملة. فالإصلاح هنا لا يَقبل العجلة ولا يُؤتى قسراً، بل يحتاج إلى تدرج محسوب، يموله الإنفاق الحكومي الرشيد، ويستند إلى رؤية تصحح الأساس قبل أن تُشيّد البنيان.

ومنطلق الإصلاح أن تُستأصل علل البيروقراطية التي كبّلت الإدارة ردحاً من الزمن، وأن تُواجَه آفة الفساد مواجهةً لا تعرف المواربة، وأن تُفعَّل الشفافية لتغدو نهجاً لا شعاراً، وأن يُرسَّخ نظام حوكمة إلكترونية يختصر الطريق على المواطن والمستثمر، ويغلق أبواب التلاعب والعبث. وفوق ذلك كله، أن تُرفع معايير رفاهية المجتمع، لا بمعناها الاستهلاكي الضيق، بل برؤيتها الواسعة التي تجعل من التعليم والثقافة والصحة ركيزةً لاقتصادٍ متين.

فإن ظلّ «الحاضر» قابعاً في جموده، متشبثاً بموروثاته العقيمة، فلن تُجدي نفعاً كل أحلام «المستقبل» مهما سمت، ولا جسور «التحوّل» مهما اتسعت؛ إذ لا يُثمر غرسٌ على أرضٍ لم تُطهَّر من شوائبها، ولا يقوم بناءٌ على أساس لم يُدعَّم بمتانة وعدل.

«الاقتصاد الثلاثي».. لماذا؟!

إنها، بلغة الاقتصاد، استراتيجية لتخفيف المخاطر وتوزيع الأحمال، فلا تُلقى أثقال المستقبل في سلة واحدة، ولا تُعقد الآمال على موردٍ أوحد قد تخونه تقلبات السوق أو تقلّبات السياسة الدولية. بل يُوزَّع الحصاد على ثلاث سلال متوازية؛ يُرعى كل منها بعناية، وتُقاس ثمارها بموازين دقيقة، حتى إذا اكتملت عناصر النضج وتوفرت شروط الاندماج، انصهرت في جسد اقتصادي واحد، أصلب بنياناً وأقدر على المنافسة.

وهكذا تنتقل الكويت من اقتصاد ظلّ لعقود طويلة رهيناً للنفط، يعتمد على عائداته بما يناهز تسعة أعشار دخله، إلى اقتصاد متنوع الإيرادات، يُشكّل فيه ناتج الصادرات غير النفطية نسبةً استثنائية غير مسبوقة قياساً بما اعتاده الناس، ليغدو بحلول عام 2035 ركناً أساسياً لا هامشياً في موازنة الدولة. وما ذاك إلا نقلة نوعية، تُبدَّل فيها هشاشة الاعتماد بالمورد الواحد إلى متانة التعدد، ويُستعاض عن الارتهان بالتبعية إلى قدرة واعية على صناعة القرار والوقوف بثبات في سوقٍ لا يعرف إلا الأقوياء.

2035.. ملتقى الحاضر والمستقبل

بحلول عام 2035، تُطوى صفحة الانقسام المؤقت، وتندمج الاقتصادات الثلاثة في كيان واحد، متناغم القوانين، متطابق الوجهات، متماسك الأركان، قادر على امتصاص الصدمات كما يمتص الجسد العليل دواءه حتى يبرأ. وحينها وحده يمكن القول إن الكويت قد بلغت غاية رؤيتها، لا بقرارات فوقية تُكتب على الورق، ولا بقفزات عشوائية تفتقر إلى التوازن، بل بتدرج حكيم صاغ من كل مرحلة سلّماً يرتقي به إلى ما بعدها، ومن كل جسر معبراً يمهّد لخطوة أوسع وأثبت.

غير أنّ ذلك ليس بالأمر الهيّن؛ فالمسافة بين الحلم والواقع لا تُقاس بأحبار الأقلام ولا بخطب المنابر، بل بعرق المصلحين، وصبر العاملين، وحكمة المدبرين. وإذا صدقت النيات، وتضافرت الحكومة والشعب، وأُحسن استثمار الصناديق السيادية بما يليق بثروة الأجيال، فإن الكويت لن تظل أسيرة صورة البيروقراطية الثقيلة التي وُسِمت بها يوماً، بل ستنهض إلى مقام جديد، واحة استثمارية وارفة، يتسابق المتنافسون إلى القرب منها، وتتطلع إليها العواصم كما تتطلع الأرض العطشى إلى الغيث.

ما استراتيجية «الاقتصاد الثلاثي» إلا مقاربة عملية واقعية، وُضعت لتواجه زمن العواصف وتقلب الموازين، وتستند في بنائها إلى منطق التدرج وحكمة التجربة. هي وعيٌ عميق بأن التغيير الجذري لا يُفرض قسراً ولا يُستجلب دفعة واحدة، بل يُبنى لبنة فوق لبنة، ومحافظة إثر محافظة، حتى يستوي البنيان راسخاً، وتكتمل أركانه بغير عجلة ولا ارتجال.

وإن قُدّر لهذه الخاطرة أن تتحول من مجرد طرح فكري إلى نهج مطبّق، فإن عام 2035 لن يكون موعداً مع الوهم أو محطة لتكرار وعود لم تجد سبيلاً إلى الواقع، بل سيكون -بإذن الله- لحظة ميلاد واقع جديد، يلتقي فيه الماضي بالحاضر عند عتبة المستقبل. هناك، لا يُستعاد المجد بشعارات تُرفع في الهواء، ولا بخطب تُنسي الناس أثقال يومهم، بل بعملٍ منظّم، متين الأركان، وبعزم لا يلين أمام العقبات، وإرادة تستمد قوتها من يقين أن الأمم لا تُبنى بالصدفة، بل بالصبر والجدّ، وبالتخطيط الذي لا يترك فراغاً لارتجال أو تردد.

فاللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا..

عبدالله السلوم

*المصدر: جريدة القبس الإلكتروني | alqabas.com
اخبار الكويت على مدار الساعة