الأزمات الكبرى والشرط الغائب في السياسة الأميركية
klyoum.com
أخر اخبار اليمن:
الاعلان عن اخر إحصائية للمختطفين من قبل هذه الجماعةعلّمنا التاريخ أن الأزمات الكبرى ليست مجرد فصول من الدمار، بل محطات مفصلية يمكن أن تُنتج إنجازات كبرى تعيد صياغة النظام الدولي. فحرب الثلاثين عامًا (1618–1648)، التي مزّقت أوروبا، أفرزت صلح وستفاليا الذي دشّن فكرة الدولة القومية الحديثة وسيادة الحدود. أما الحرب العالمية الثانية، ورغم مأساتها الهائلة، فقد أطلقت لحظة تأسيسية للنظام الدولي المعاصر، عبر صعود شخصيات استثنائية في التاريخ: روزفلت، الذي صاغ معالم الأمم المتحدة والنظام المالي الجديد، وتشرشل، الذي ألهم العالم بخطاباته في مواجهة النازية، وديغول، الذي أعاد لفرنسا مكانتها كقوة كبرى رغم سقوطها، وستالين—رغم طبيعته الديكتاتورية—الذي لعب دورًا حاسمًا في هزيمة النازية ورسم معادلات ما بعد الحرب.
هذه الشخصيات، برغم اختلاف أنماط حكمها ورؤاها، تشترك في سمة جوهرية: القدرة على تحويل الأزمة إلى تأسيس، والتفكير بما يتجاوز اللحظة المباشرة إلى مشروع تاريخي شامل. وهنا يبرز السؤال اليوم: هل يمكن أن تكون حرب غزة، بكل ما تحمله من مأساة إنسانية وارتباك استراتيجي، لحظة تأسيسية جديدة تفتح بابًا لإنجاز استثنائي يحقق الأمن والاستقرار والتطور للإقليم، وربما للعالم؟
لكن العقبة الكبرى تكمن في أزمة القيادة المعاصرة: فالأزمات، مهما بلغت شدتها، لا تُنتج التحولات الكبرى من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى قادة استثنائيين قادرين على تحويل الانكسار إلى بداية جديدة. ومن هنا، تتجه الأنظار إلى الولايات المتحدة—وبالذات مع عودة دونالد ترامب إلى الواجهة وتبنيه خطة إنهاء حرب غزة—لطرح السؤال: هل يمكن لترامب أن يلعب الدور الذي لعبه روزفلت؟ أم أن السياسي الأميركي المعاصر بات أسيرًا للحظة، محكومًا بحسابات وطموحات شخصية (مثل السعي وراء جائزة نوبل للسلام)، على نحو لا يسمح بإنتاج قيادة تاريخية؟
القاعدة التاريخية: الأزمة بوصفها محرّكًا للتحول
إذا ما تطرقنا لحرب الثلاثين عامًا (1618–1648)، نجد أنها انتهت بصلح وستفاليا، الذي أسس مبدأ سيادة الدولة الحديثة، وهو من أعظم إنجازات النظام الدولي. الحال ذاته مع الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، التي أفرزت قيادة مثل تشرشل وروزفلت وديغول، خططوا لما بعد الحرب حتى وهم في قلبها. ونتج عنها تأسيس الأمم المتحدة، وصعود أميركا كقوة مهيمنة. أما حرب فيتنام، فمثّلت أزمة قاسية للولايات المتحدة، لكنها أطلقت أيضًا تحولات في السياسة الداخلية الأميركية (حركات الحقوق المدنية، مراجعة نظرية التدخل).
ومن هنا، غزة اليوم تطرح سؤالًا من جوف المأساة: هل الأزمة كافية لتحقيق إنجاز؟
حرب غزة بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) يمكن أن تُعد أزمة تاريخية كبرى، لكنها وحدها لا تكفي؛ فهناك شروط أساسية ليولد من الأزمة إنجاز:
1- إرادة قيادية استثنائية: قدرة على تجاوز الحسابات القصيرة وتحويل الألم إلى مشروع بناء.
2- رؤية استراتيجية متجاوزة للحظة: مثلما قدّم وستفاليا مفهوم الدولة، أو ما بعد الحرب العالمية الثانية مفهوم المؤسسات العالمية.
3- تحالفات شرعية: لأن التحولات العظمى لا يصنعها طرف منفرد، بل توازن قوى يجد صيغة جديدة.
وهو ما يستدعينا للتفكير مليًا في أزمة السياسي الأميركي المعاصر، بصفة أن أميركا لا تزال القوة التي تدافع عن مكانة "القطب الأوحد"، وبالتالي المعضلة: أميركا اليوم ليست أميركا روزفلت. فنحن أمام غياب القيادة الملهمة، وذلك وفق عدة معطيات، إذ إن السياسي الأميركي اليوم أسير الحملات الانتخابية والتوازنات الداخلية، أكثر من كونه رجل دولة تاريخيًا، كما كان القادة الكبار الذين اتّسع أفقهم التاريخي ليشمل ما هو أبعد من الكرسي أو المكاسب الفردية.
وليس أدل على ذلك من مشهد الانقسام الداخلي: بين التيارات الشعبوية (ترامب) والمؤسسات التقليدية، ما يجعل القرار رهين الداخل. لقد دفعت البراغماتية القصيرة المدى لأن تُدار السياسة وفق دورة انتخابية، لا وفق مشروع حضاري طويل، مع تراجع القدرة الأخلاقية. فصورة أميركا تضررت بشدة في العالم بسبب ازدواجية المعايير، خصوصًا في غزة، مما يضعف أهليتها لقيادة تحول تاريخي.
ترامب يُمثّل الحالة الاستثنائية المفقودة، فهو يحاول أن يقدم نفسه بوصفه "القائد الاستثنائي" الذي يعيد تشكيل النظام الدولي، لكن مشكلته أنه لا يمتلك مشروعًا حضاريًا جامعًا، بل خطابًا شعبويًا يقوم على التفكيك أكثر من البناء. فهو يتعامل مع غزة كملف تكتيكي للمساومة من أجل نوبل، لا كبوابة لتحول إقليمي–دولي. كما يخلو خطابه من العمق التاريخي الذي حوّل تشرشل وروزفلت إلى قادة استثنائيين.
الخلاصة: الأزمة موجودة (حرب غزة)، لكن الشرط القيادي غائب في أميركا اليوم. السياسي الأميركي المعاصر يعاني من أزمة رؤية وأزمة قيادة تاريخية، إذ لا يملك ترامب مشروعًا تاريخيًا شاملًا، بل شعارات مثل "أميركا أولًا"، تقوم على الانكفاء وحماية الداخل، لا صياغة نظام عالمي. كما يتعامل مع حرب غزة على أنها "صفقة" أو ملف مساومة، وليس كبوابة لصياغة نظام إقليمي أو عالمي جديد. فهو يرى في نوبل وسيلة لتخليد اسمه، لا لتأسيس نظام عالمي جديد. أي أن المشروع لم يعد "كيف أغيّر التاريخ؟"، بل "كيف يُذكر اسمي في التاريخ؟"، ما يجعل فرص تحويل هذه الحرب إلى إنجاز حضاري عالمي ضعيفة.
77.235.62.132
* من إيلاف