عن محاولات «تهويد الإسلام»: بين «الشعب المختار» و«الآل الأطهار»
klyoum.com
الأديان في الأصل عقائد لا أعراق، ورسالات لا سلالات، وكل ما يتعلق بها يدور حول الفكرة لا الأسرة، والعقيدة لا العشيرة، ذلك أن الأصل في الأديان أن تكون للإنسان، بعيداً عن عرقه، أو جنسه، أو لونه، أو لغته. غير أن المصالح السياسية تحاول – في كثير من الأحيان – تأويل الأديان تأويلاً عرقياً قومياً، يجعل الدين مرتبطاً بالسلالات لا الرسالات، في مغزى لتكريس التميز العنصري لأعراق محددة، بهدف تكريس حقها في السلطة والثروة، بناء على كون تلك الأعراق متميزة أو متفوقة، على أساس جيني.
ويتم إقناع العامة بهذه الفوقية أو التفوق بعدة سبل، منها الزعم بالتواصل مع مخلوقات خارقة مثل الجن، كما في أعمال السحر والشعوذة، أو الزعم بـ«الاختيار الإلهي» الذي يمنح سلالة أرضاً مقدسة، كما لدى اليهودية، أو الادعاء بـ«الاصطفاء الإلهي» الذي يمنح سلالة أخرى الحق في سلطة الناس وثروتهم، كما لدى بعض الطوائف الإسلامية.
إن فكرة تحويل الرسالات إلى سلالات هي فكرة قديمة ورثتها الأديان السماوية عن الأديان الأسطورية التي سبقت مرحلة الأديان الثلاثة الكبرى في اليهودية والمسيحية والإسلام، حين كان أكاسرة الفرس أبناء آلهة، وأباطرة الرومان أنصاف آلهة، وكانت دماء الآلهة تجري في عروق الفراعنة.
وعلى الرغم من أن نصوص الكتب السماوية لا تحيل على أفضلية سلالية من النوع الذي تزعمه لنفسها بعض السلالات والأعراق، إلا أن فكرة تجيير الرسالات لخدمة السلالات اعتمدت على نصوص دينية يتم تحريفها ـ بواسطة التأويل – عن مقاصدها الأساسية، ومن ثم اعتساف دلالات لا يدعمها السياق اللغوي أو التاريخي أو الديني، من خلال تأويلات احتشدت بها شروح وتفاسير تلك النصوص الدينية، وهي التفاسير التي نتج عنها عقيدتان جوهريتان، هما: «الاصطفاء الإلهي»، و«الحق الإلهي»، حيث أعطى القول بالأولى المبرر للقول بالثانية إذ اتكأ «الحق الإلهي» على «الاصطفاء الإلهي» الذي برر الامتيازات السياسية والاقتصادية لعرقية معينة، بكون هذه العرقية «مختارة أو مصطفاة من الله».
ومع تكريس عقيدتي: «الاصطفاء والحق الإلهي» ظهرت في كتب الشروح والتفاسير الدينية اليهودية وبعض الإسلامية – فكرتان عنصريتان مغلفتان برداء ديني، يغطي حقيقتهما العنصرية، فعلى الجانب اليهودي ظهرت فكرة «الشعب المختار»، المرتبطة بعقيدة «الاختيار الإلهي» المزعوم، وعلى الجانب المسلم ظهرت فكرة «الآل الأطهار» المرتبطة بعقيدة «الاصطفاء الإلهي» المُدّعى، في إعادة إنتاج لأفكار عنصرية، بصبغة إسلامية، بينما هي – في الأصل – أفكار يهودية تلقفتها اليهودية – بدورها – عن الأساطير القديمة، حول الملوك الآلهة وأنصاف الآلهة، وحكايات الدم الإلهي، وما نتج عن ذلك من أفكار تدور حول «الاصطفاء والحق الإلهي»، في كل من اليهودية والإسلام، حيث يتم النظر إلى سلالات بعينها على أنها تحوي خصائص «جينية» مختلفة تميزها عن غيرها من السلالات والأعراق.
ومع تنامي المد السلالي في اليهودية التي تحيل تسميتها إلى إحالات عرقية، ومع ابتداع فكرة «الشعب المختار» بمحتواها السياسي غير الموجود ـ أصلاً ـ في العهد القديم، والناتج عن التأويل العنصري اليهودي لبعض نصوص ذلك العهد، مع كل ذلك التراكم تم اختصار فكرة «الشعب المختار» في «الدولة اليهودية»، وتحول «الشعب» إلى «دولة»، وانتحلت هذه الدولة اسم نبي كريم هو «إسرائيل» الذي تم انتحاله على يد التوجهات الصهيونية التي أطلقته على تلك الدولة، في خلط كبير بين «إسرائيل النبي»، بمحتواه الرسالي الروحي، و«إسرائيل الدولة»، بأبعادها السلالية والسياسية.
وإذا كان التأويل العنصري لليهودية قد تضخم حتى التهمت السلالةُ الرسالة، فإن آثار ذلك التضخم قد امتدت ـ مع الأسف ـ إلى الإسلام، حين تسربت بعض المقولات اليهودية إلى بعض المسلمين، حين أعيد إنتاج عقيدة «الشعب المختار» اليهودية ـ بشكل متطابق ـ في عقيدة «الآل الأطهار»، لدى بعض الفرق الإسلامية، في تأثر واضح بالتوجهات العنصرية لدى اليهودية، وهو تأثر يعكس محاولات «تهويد الإسلام» تأويلياً، وذلك بابتكار مصطلحات تتنافى مع الأبعاد الرسالية الإنسانية لهذا الدين، عدا عن أن تلك المصطلحات لا وجود لها أساساً في القرآن الكريم، مثل مصطلح «الآل الأطهار» – بمفهومة العرقي – الذي لا يعدو كونه ترديداً لحكاية «الشعب المختار»، وذلك بعد تعبئة مصطلح «الآل» بمفاهيم عرقية، جرياً على المنوال السلالي في اليهودية.
وعلى الرغم من أن القرآن تحدث عن مصطلح آخر هو مصطلح «أهل البيت»، إلا أن هذا المصطلح القرآني ينفتح – لغوياً وسياقياً – على دلالات «زوجات النبي»، وماذا عليهن من واجبات، في إطار فقهي ديني، دون أن يحمل الدلالات العرقية الجينية التي ارتبطت بالأبعاد السياسية والأطماع في السلطة والثروة التي مورست باسم النبي وآله. ومع كل ذلك يجب أن نشير إلى حقيقة واضحة، وهي أنه رغم محاولات «تهويد الإسلام»، إلا أن التأويل الرسالي الإنساني ـ لا السلالي العنصري – للإسلام لا يزال هو السائد لدى أغلبية المسلمين، حيث النصوص الواضحة التي تنفتح على دلالات إنسانية الإسلام، وعالمية رسالته.
ومع ما سبق، ومع نتائج دراسات «مقارنة الأديان»، يتضح أنه لا يمكن النظر إلى مصطلح «الآل الأطهار»، أو «ذرية محمد»، بمعزل عن الأثر الذي أحدثه مصطلح «الشعب المختار»، أو «بني إسرائيل»، ذلك أن هذه المصطلحات تدور حول دلالات الاختيار والاصطفاء والحق الإلهي والتميز العرقي والطهارة التي لا يكون التحلي بها إلا من خلال الانتماء «الجيني السلالي»، وهو ما يناقض أصل المحتوى «الديني الرسالي» لكل من ديانتي موسى ومحمد عليهما السلام، إذا ما حررنا هاتين الديانتين من التأويلات العرقية التي لا وجود لها في التوراة ولا في القرآن، وإن كان لها وجود في كتب التفاسير والشروح التي حاولت أن تخدم توجهات سياسية لا روحية، باعتساف النصوص المقدسة، وإخراجها عن محتواها الرسالي إلى سمات سلالية، مناقضة لفحوى الرسالات الدينية.
*القدس العربي