بورتريه: غوستافو بيترو (رئيس كولومبيا): الفلسطيني... أكثر من كل العرب !!
klyoum.com
أخر اخبار تونس:
افتتاح فرع خدمات نموذجي للستاغ بجندوبةتحرّكت في عروقه دماء عربية قذفتها قبل قرون سفن القشتاليين وهي ترسو بهم في تغريبة النهاية على ضفاف المحيط الهادئ بعدرحلة تيه طويلة أجبر عليها سكان الأندلس (الموريسكيون) بعد سقوط غرناطة وانهيار الحكم العربي الإسلامي لشبه الجزيرة الايبيرية عام 1492.. سرت الدماء ـ اليعربية ـ على الضفة الأخرى للمحيط الهادئ واختلطت بملل وأجناس تشكل لوحة فسيفسائية متناسقة في قارة أمريكا اللاتينية ومنها كولومبيا التي تجاوز تعداد العرب فيها الآن لتشكهل الثلاثة ملايين نسمة.. ظلت الدماء العربية كامنة خامدة، وكأنها تنتظر من ينعشها ويحييها فيعيد لها الحياة.. فتعود تنبض عربية، بهية، متدفقة، منسابة، تتفاعل مع الأحداث وتفعل فيها فعلها.. وأي حدث أعظم وأشد أثرا من حدث غزة العزة وهي تؤز العالم أزا وتهز الضمير الإنساني هزّا فتعيد لقيم الحق والعدل معانيها ومضامينها وتعيد للدم الذي يسري في العروق جذوته وجذوره وانتماءه فينتفض في وجه الظلم والطغيان. ويتمرد على الغطرسة والجبروت.. ويثور على التحالف الأمريكي ـ الصهيوني في قلب نيويورك ومن أعلى منبر الأمم المتحدة.. فإذا بكل العرب وكل المسلمين وكل أحرار العالم يتساءلون في لحظة فخر وانتشاء: من هو صاحب هذا الصوت الحر، الجريء، الشجاع، الثائر، الانسان الذي يبصق في وجه الامبريالية والصهيونية.. ويدعو لانشاء جيش عالمي لتحرير فلسطين؟
***
اسمه غوستافو بيترو (أوريغيو) من مواليد 19 أفريل 1960 في كولومبيا ويشغل منصب رئيس دولة كولومبيا منذ 2022.. في كولومبيا لا خيار لك إلا بين طريقين: طريق الفساد والمخدرات للهروب من الواقع الصعب والافلات على مخالبه.. أو طريق السياسة بتعرجاتها وبمنعرجاتها وبمطبّاتها التي قد تدفعك إلى المحظور..
الشاب غوستافو اختار طريقة السياسةوأرادها سبيلا وأداة للتغيير لكن ثقافته اليسارية دفعته دفعا إلى نهج الحسم وإلى لغة العمل المسلح.. فانتمى إلى حركة «أم 19» اليسارية التي كانت تؤمن بالعمل المسلح.. نهج انتهى به في أحد سجون بوغوتا (العاصمة الكولومبية) المظلمة.. في زنزانته الكئيبة وبين جدرانها الضيقة، وجد الشاب الثائر كل الوقت لتدقيق النظر والتأمل العميق وإحداث المراجعات اللازمة.. أيقن أن طريق الحسم الثوري والعمل المسلح هي طريق معبّدة بالجماجم، ملطخة بالدماء.
وأيقن أن هذه الطريق ـ المغمورة ـ بالمعاناة والمآسي الاجتماعية لا يمكن أن تصنع انسانا كولومبيا سويا. هي طريق تهدم ولا تبني.. طريق تنفر ولا تجمّع.. وأيقن أن العمل السياسي هو أفضل أداة للتغيير وأفضل وسيلة لبناء المواطن الجديد. المواطن الذي يقبل أن يعوّض زراعة المخدرات التي لا تحمل في الأخير إلا الموت والدمار وتضع المواطن رهينة لدى أباطرة المخدرات والتهريب بزراعة المنتوجات الفلاحية التي تدر الخير الوفير وتخلص الانسان من براثن الفاقة والخصاصة ومن مخالب عصابات ترويج المخدرات.
هذه المراجعة الجذرية التي قام بها وهو في السجن دفعته إلى معترك العمل السياسي السلمي بعد قضاء مدة سجنه. فقد خرج بفكر جديد يؤمن بأن السياسة أعمق أثرا وأكثر تأثيرا من السلاح.. دخل البرلمان وسرعان ما برز بمداخلاته الرشيقة والجريئة.. مداخلات شن من خلالها حربا لا هوادة فيها على الفساد وعلى التحالفات المشبوهة وزواج المتعة بين رجال السياسة وتجار المخدرات.. حتى أنه بات يعرّف على أنه «شوكة في حلق الطبقة الحاكمة» التي استشرى فيها الفساد لدرجة تحول فيها الفاسدون إلى «نموذج» للانسان الكولومبي.. نموذج عاهد ـ الشاب غوستافو نفسه على تدميره وإسقاطه واستبداله بأنموذج جديد مبني على الحريات والحقوق وعلى المواطنة.. وسرعان ما صعد نجم هذا السياسي الصغير الذي تأبط ـ معاول ـ الجرأة والشجاعة وراح يهدم عروش الفساد والمفسدين.. وسرعان ما انتبه المواطن الكولومبي إلى هذا الصوت السياسي الجديد الذي يعبّر عن نبضه ويخوض معاركه ويبلّغ صوته ويتبنى مشاكله ومشاغله ويعبّر عن هواجسه ويضع اماله وطموحاته على سكة الانجاز.. وكان رجع الصدى التفافا حول هذا السياسي الصادق والشجاع وهو يتقدم لانتخابات الرئاسة عام 2022 ليتوج غوستافو بيترو رئيسا رقم 35 لكولومبيا كأول رئيس يساري يحكم البلاد.
أن تكون رئيسا يساريا في ساحة دأبت أمريكا على اتخاذها حديقة خلفية لها ترتع فيها مخابراتها وتصنع كل تفاصيلها فإن ذلك يعني أنك تسير في طريق صعبة ويرتّب عليك ـ استحقاقات ـ ستجعلك حتما في عين الاعصار.. لأن عيون «السي اي اي» لا تغفو ولا تنام والدابة الأمريكية بالمرصاد لإطفاء كل شمعة توقد في دول أمريكا اللاتينية يكون نبضها يساريا تنتمي إلى اليسار وتعمل على تقويض أسس النظام الليبرالي المتوحش وبناء انسان جديد وكيان جديد لدول القارة.. والرئيس غوستافو قبل التحدّي، وقبل السير في نهج السيادة وفي نهج الخروج من المظلة الأمريكية التي ترهن القيادات والأنظمة الفاسدة وتطحن الشعوب طحنا.
صاحبنا لم يتخلف في كشف أوراقه وفي تحديد انتماءاته واعلان اللون السياسي لنظامه ولنهج كولومبيا المستقل عن الهيمنة الأمريكية تحت حكمه.. منذ انتخابه حرص على تقديم بلاده كـ«لاعب جديد في الجنوب العالمي» لاعب يؤمن بالتوازن في العلاقات الدولية. ولاعب يؤمن بالسيادة الوطنية وباستقلالية القرار الوطني ويسعى إلى تكريسهما في كل فعل سياسي صغر شأنه أم كبر.. وفي التعاطي مع كل الأحداث في المحيطة الاقليمي القريب أو في قارات العالم البعيدة.. قناعات دفعته إلى فلسطين وحوّلته إلى منصّة لقصف وحشية وغطرسة أمريكا وإسرائيل.
وكان طوفان الأقصى بمثابة ـ الصاعق ـ الذي استفز الروح العربية الكامنة فيه وحرّك الدماء العربية التي أعادها في أحد تصريحاته إلى زمن هجرة الحشود القشتالية (عام 1492) هربا من بطش المسيحيين ومن حملات الابادة الجماعية والتطهير العرقي التي نفذوها وقتها ضد المسلمين. كان ـ الطوفان ـ بمثابة البركان الذي ثار ليوقظ المارد النائم في خبايا النفس والروح.. لينطلق الرئيس الكولومبي في ثورة صاخبة على الصهيونية وعلى شريكتها الامبريالية الأمريكية.. في بداية 2024 أوقفت كولومبيا شراء السلاح من اسرائيل احتجاجا على العدوان الصهيوني على غزة.. خطوة دفعت كولومبيا وبحرص من رئيسها إلى تصنيع وعرض بندقية هجومية لتحل محل بندقية «جليل» الاسرائيلية التي كانت تستخدم في محاربة عصابات التمرد والمخدرات.. وفي ماي 2024 قطع علاقات بلاده مع الكيان الصهيوني لتكتمل حلقة التصعيد مع اسرائيل بطرد السفير الاسرائيلي من «بوغوتا» (عاصمة كولومبيا) في شهر أكتوبر 2024.. ولم تقف حلقة التصعيد عند هذا الحد بل ان الرئيس الكولومبي وبصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة الكولومبية أمر عام 2025 باعتراض سفينة في بحر الكاريبي تنقل فحما لإسرائيل.
مثقلا بهذه الخلفية التقدمية، وممتلئا بالدماء العربية التي تسري في عروقه، ومفعما بالحس الانساني العميق، ومتسلحا بجرأة الثائر وبشجاعة المدافع عن قيم العدل والحق وعن المظلومين والمسحوقين حيثما كانوا اعتلى الرئيس غوستافو بيترو منبر الأمم المتحدة.. واندفع في حملته لاستنهاض الضمير البشري وتحسيس الضمائر النائمة والمستترة بمظلمة الدهر ـ مظلمة المطحونين بآلة القتل والابادة والدمار الصهيونية الأمريكية في قطاع غزة.
ومضى في مداخلة مشهودة نزع فيها كل قفازات السياسيين وتخلص من كل المساحيق التي يبدعون بواسطتها في تزويق الكلمات وتنميق العبارات وافراغ الجمل من مضامينها ليعري الطبيعة العنصرية لاسرائيل التي نعتها بمعاداة السامية وليعرّي أمريكا التي تدعم الإبادة بالمال وبالسلاح وبالغطاء السياسي.. وتمضي به جرأته حدّ القول بأن أمريكا وحلف الناتو هما من يقتلان الديمقراطية ويدعمان الجور والاستبداد ما دفع وفد أمريكا إلى الانسحاب من الجلسة احتجاجا على كلمته.. انسحاب لم يغيّر شيئا في نبرة الرئيس الكولومبي الذي اتهم الكيان الصهيوني بارتكاب جرائم ضد الانسانية واتهم الرئيس ترامب بأنه شريك في الابادة الجماعية.
كانت مداخلته المشهودة في الجلسة العامة للأمم المتحدة عبارة عن شوط أول من منازلته التاريخية مع عربدة وغطرسة الكيان الصهيوني وهيمنة الدابة الأمريكية.. ليستكملها بشوط ثان عندما اشترك في مسيرة احتجاجية شهدتها مدينة نيويورك ضد حرب الابادة في غزة وضد اجرام نتنياهو ودعم ترامب للابادة.. وذلك عندما دعا إلى تشكيل جيش عالمي لتحرير فلسطين معلنا استعداده لقيادة لهذا الجيش الذي يجب أن يكون أقوى من جيش أمريكا لتكون له اليد العليا والكلمة الفصل في معركة تحرير فلسطين.
موقف يطرح على العرب أولا وعلى المسلمين ثانيا سؤالا جوهريا: من العربي المسلم نحن أم غوستافو بيترو؟ من الذي تسري في عروقه دماء عربية ـ اسلامية نحن أم رئيس كولومبيا؟ أي معنى يبقى للعروبة حين يخذلها حاملوها؟ وأي معنى يبقى للشرف وللرجولة ولمعاني النخوة عندما تصبح كلمات فضفاضة، خاوية، لا روح فيها؟ أسئلة تأخذنا رأسا إلى عبارات شاعرنا العربي العراقي الكبير مظفر النواب عندما تساءل بحرقة: من هرّب هذه القرية من وطني.. لنسأل بدورنا من هرّب هذا الرجل الصادق الشريف وهذا الزعيم الفذ وهذا البطل الهمام من وطننا الكبير.. من هرّب هذا الرئيس العربي الفلسطيني .. أكثر من كل العرب الذين ينقسمون بين صامت ومتفرج وموال وداعم للصهيونية ولحملة الابادة لأشقائنا من غزة وفي كل فلسطين المحتلة؟