"أسطورة سنغافورة": حتى لا ننتهي إلى سوريا بلا تنمية ولا ديمقراطية!
klyoum.com
أخر اخبار سوريا:
الأجندة الثقافية في سوريا ليوم السبت الـ 12 من تموز 2025سواء كانت حاضرة في ذهن الوزير الشيباني، وبقية أركان القيادة السورية الجديدة، أم لا، فإن الحقيقة التي قلما يتم التوقف عندها في ما يتصل بنموذج سنغافورة، هي أن هذا البلد لم يكن على امتداد عقود ازدهاره دولة ديمقراطية!
خلال ظهوره الدولي الأول والأهم ربما حتى الآن، في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، في كانون الثاني/ يناير الماضي، حدد وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، سنغافورة باعتبارها مصدر الإلهام الأول في بناء "سوريا الجديدة".
وعلى رغم استحقاقه وصف "معجزة"، فلطالما أظهر سياسيون، ليس الشيباني إلا أحدهم، إضافة إلى اقتصاديين، استسهالاً في ادعاء القدرة على إعادة إنتاج النموذج السنغافوري. إذ سبق للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، على سبيل المثال، أن أمل (أو حلم)، غداة اتفاقات أوسلو، بجعل قطاع غزة "سنغافورة جديدة". فوق ذلك، يثير هذا النموذج، حتى بافتراض صدق الأمل، معضلة العلاقة بين الازدهار الاقتصادي والديمقراطية، لا سيما في البلدان متعددة الهويات الإثنية والخارجة تواً من صراع أهلي، تماماً كما هي حال سوريا التي عانت أربع عشرة سنة من الحرب، ناهيك بأكثر من نصف قرن من الحكم المافياوي الفاسد الذي لا يقل عن الحرب تدميراً.
التعافي ضد الديمقراطية
سواء كانت حاضرة في ذهن الوزير الشيباني، وبقية أركان القيادة السورية الجديدة، أم لا، فإن الحقيقة التي قلما يتم التوقف عندها في ما يتصل بنموذج سنغافورة، هي أن هذا البلد لم يكن على امتداد عقود ازدهاره دولة ديمقراطية! فهو منذ العام 1959، محكوم، بفضل أساليب يقال إن بعضها ملتو وغير نزيه، من حزب العمل الشعبي. أما لي كوان يو، الأب المؤسس للمعجزة، فلم تكفه 30 سنة رئيساً للوزراء، فكان أن قرر بعدها البقاء في الحكومة "وزيراً رفيعاً" لأربع عشرة سنة أخرى (1990-2004)، قبل أن يبتدع لنفسه منصب "الوزير المعلم" الذي ألغي بتقاعده أخيراً العام 2011.
واليوم، تلخص منظمة "مراسلون بلا حدود" المشهد بأنه "فيما تفاخر سنغافورة بأنها نموذج للتنمية الاقتصادية، إلا أنها تعد مثالاً على ما لا ينبغي أن تكون عليه الحال في ما يتعلق بحرية الصحافة". أما تقييم المبادرة العالمية لحال الديمقراطية العام 2023، فيضع البلد المعجزة اقتصادياً ضمن أدنى 25 في المئة من البلدان على صعيد "حرية الصحافة، وحرية إنشاء الجمعيات والتجمع، والديمقراطية المحلية".
هكذا يغدو السؤال البديهي، على رغم ما قد يثيره من استفزاز: هل كان غياب الديمقراطية، لأجل الوحدة الوطنية والاستقرار كما حاجج لي كوان يو مبكراً، شرطاً لنهضة سنغافورة؟ وهل ينسحب ذلك بالضرورة على مثيلاتها من البلدان متعددة الهويات تحديداً؟
فمصدر الإعجاز السنغافوري لم يكن النجاح فقط في مواجهة تحدي انعدام شبه كامل للموارد الطبيعية، وإنما أيضاً إدارة تنوع عرقي وديني ولغوي جليّ. إذ تضم الجزيرة الصغيرة ثلاثة أعراق رئيسة، هي الصينيون (74.2%) والملايو (13.7%) والهنود (8.9%). فيما يتوزع السكان على خمسة أديان أساسية، هي البوذية (31.1%)، والمسيحية (18.9%)، والإسلام (15.6%)، والطاوية (8.8%)، والهندوسية (5%)، إضافة إلى 20 في المئة من غير المؤمنين. وهؤلاء يتحدثون بلغات ولهجات عدة، أربع منها على الأقل رسمية؛ الإنكليزية والماندرين، والملايوية، والتاميلية.
الإجابة عن سؤال العلاقة بين الديمقراطية (أو غيابها) وبين التنمية الاقتصادية في هذا السياق تبدو أكثر وضوحاً وحتى حسماً عندما يتعلق الأمر بالدول الخارجة من صراعات وحروب أهلية. وعلى رغم رفض كير من السوريين تسمية ما حصل على امتداد السنوات الأربع عشرة الماضية حرباً أهلية، فإن كثيرين أيضاً ضمن هذه الكثرة يمارسون منذ التحرير "رد فعل" إن لم يكن سلوكاً واعياً طائفياً وعرقياً يؤكد أن ما عانوه وبلدهم كان حرباً أهلية بلا أدنى شك.
إذ خلافاً للخطاب المرغوب والسائد فعلياً، سياسياً وإعلامياً، حول كون الديمقراطية الشرط الأول للتعافي والنهوض إن لم تكن العلاج لكل بلاء (عانته وتعانيه سوريا)، فإن دراسات وتقارير رصينة عدة تحذر من أن استعجال الديمقراطية على الأقل، في بلدان تسعى إلى التعافي من صراع أهلي، هو في الحقيقة وصفة لعدم الاستقرار وإعاقة التعافي على المدى الطويل، وصولاً في المحصلة إلى إحياء الصراع وليس العكس. ذلك أن "السبب الجذري للصراع (الأهلي)" ليس غياب الديمقراطية، بحسب دراسة شهيرة للبنك الدولي، وإنما "الفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية".
واللافت أن تأكيد هذا التحذير يأتي من تقييم حديث (2021/2022) لبرامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) لدعم الديمقراطية في 18 بلداً خارجاً من صراعات أهلية. إذ يتمسّك واضعو التقييم بموقفهم الأولي المؤيد لدعم الديمقراطية في مرحلة ما بعد الصراع، وتفنيدهم الموقف المضاد في هذا الشأن بـ"اختلاف السياقات، وطرق ترجمة المساعدة على الأرض". على رغم ذلك، يخلص التقييم ذاته إلى أن فرص النجاح تكون أقل في "البلدان التي لا تزال فيها جذور الصراع ومحفزاته قائمة، على الرغم من وقف إطلاق النار أو اتفاق السلام، ما يسبب الكراهية وانعدام الثقة بين الشركاء المحتملين".
لكن بعيداً عما يمكن اعتباره "خصوصية سنغافورية"، ورغماً عن "الجدل الأكاديمي"، يبقى الافتراض الأهم أن خلق الديمقراطية أو تعزيزها في سوريا هما أولوية للمجتمع الدولي، لا سيما دول الغرب "الديمقراطي" التي يؤمل ويتوقع أن تكون مصدر المساعدات والاستثمارات الحاسمة لتحقيق التعافي والتنمية الضروريين لاستقرار المجتمع والسلطة في آن.
العالم ضد الديمقراطية السورية
منذ اللحظات الأولى لتحرير سوريا في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، كان واضحاً تعويل كثير من السوريين "الديمقراطيين" على ضغوط الغرب السياسية والاقتصادية باعتبارها السبيل الأهم، إن لم يكن الأوحد، لفرض الديمقراطية على القيادة الجديدة.
فإضافة الى أيديولوجيا قيادة "عملية ردع العدوان" التي أطلقت الرصاصة الأخيرة على نظام الأسد، وهي أيديولوجيا لا تتواءم إن لم تكن تتناقض تماماً مع القيم الديمقراطية والغربية، فإن هذا الغرب ذاته كان شرع منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وما تبعها من حرب دولية على الإرهاب، في تشجيع الديمقراطية أو خلقها في الشرق الأوسط والعالم العربي خصوصاً.
على رغم ذلك، فإن الحقيقة الجلية بعد ربع قرن من تلك "اللحظة الديمقراطية الشرق أوسطية"، هي تراجع ذلك التشجيع، بافتراض أنه كان حقيقياً أصلاً، حدّ التلاشي.
إذ مع ظهور تنظيم "داعش"، وأزمة اللجوء العالمية، مضافاً إليهما النتائج الكارثية لما يسمى "ديمقراطية" في العراق، ساهمت في الواقع في خلق "داعش"، ومثلها "الديمقراطية" الأفغانية التي لم تصمد أياماً أمام مقاتلي حركة "طالبان"، يبدو منطقياً ما يبدو واضحاً اليوم أن الهدف الحقيقي لدعم "التعافي" في الحالة السورية هو مكافحة الإرهاب/ "داعش" ووقف موجات اللجوء تحديداً. وهذا يعني، بخلاف آمال البعض وأمنياته، السعي أساساً إلى خلق حالة من الاستقرار بأدنى أشكال الديمقراطية، في أحسن الظروف. أما الحديث عن حماية الأقليات، فهو لا يعني بالضرورة حماية من خلال ديمقراطية ما. ألم يكن بشار الأسد بكل جرائمه حامياً للأقليات بنظر الغرب الديمقراطي عموماً؟
في هذا السياق تحديداً، يجب فهم تغريدة السفير الأميركي إلى تركيا عقب لقائه الرئيس السوري أحمد الشرع في أيار/ مايو الماضي، والتي أعلن فيها انتهاء "عصر التدخلات الغربية" في المنطقة. فالولايات المتحدة لا يمكن أن تتوقف عن التدخل لمصالحها الخاصة، لكنها لن تتدخل، أو تتورط للدقة، فقط لفرض شكل حكم محدد، حتى وإن سمي "ديمقراطياً". وهي أصلاً لم تدعِ فعل ذلك في العراق إلا بعد انكشاف أكاذيبها بشأن امتلاك الأخير أسلحة دمار شامل، والتي مثلت الذريعة الأساسية لإطاحة ديكتاتورية صدام حسين.
قد يُقال هنا إن إدارة الرئيس دونالد ترامب هي استثناء طارئ معاد بشكل فطري للديمقراطية. لكن الحقيقة أن هذه الإدارة هي آخر الغربيين "الديمقراطيين" المعلنين العودة إلى أولوية الاستقرار على حساب الديمقراطية. إذ يعد الاستقرار، كما هو معروف، المحدد الأصل للسياسة الغربية تجاه العالم العربي. وبسبب ذلك كان الأوروبيون أسرع إلى الانفتاح على سوريا الجديدة بقيادة تنظيم منشقّ عن "القاعدة"، بعد التزامه مكافحة الإرهاب ووقف اللجوء، إضافة إلى القضاء على تجارة آل الأسد بالمخدرات. وهذه العودة إلى الاستقرار تفسر قبل ذلك ارتضاء العالم الغربي "الديمقراطي" ذاته، وسعيه جدياً إلى التطبيع مع بشار الأسد على رغم كل جرائمه حتى لحظة سقوطه المفاجئ. ومثل ذلك غضّ الغرب الطرف بشكل شبه كامل عن انتهاكات الثورات المضادة المتواصلة للقيم الديمقراطية، حتى بعدما وصلت حد الفظائع التي لا تقتصر على الإسلاميين الموسومين دوماً بالإرهاب، بل امتدت إلى كل مطالب بالحرية والكرامة.
على الدرجة ذاتها من الأهمية يبرز الموقف الإقليمي، لا سيما العربي، من إمكانية التحول الديمقراطي في سوريا. فهل يعقل أن يكون الدعم العربي شبه الشامل للحكم الجديد في دمشق دافعه خلق تحول ديمقراطي في البلاد، أو حتى قبول أن يكون ذلك إحدى النتائج (أو الأضرار) المحتملة أو غير المباشرة؟
فإذا كان ممكناً المجادلة نظرياً برغبة الغرب في تشجيع الديمقراطية في سوريا، أو أقلها اتخاذه موقف الحياد من ولادتها طالما أنها لا تهدد القارة الأوروبية بأي شكل من الأشكال، فإن المسلم به في المقابل أن الدول العربية والإقليمية، وليس في التعميم أي مغالطة، ترى في فكرة الديمقراطية ذاتها تهديداً لا يمكن التسامح معه، فكيف إن ترافقت مع استقرار سياسي وازدهار اقتصادي بأي درجة كانت؟
لا تنمية ولا ديمقراطية؟
طبعاً، سنغافورة ليست فقط قصة معجزة اقتصادية من دون ديمقراطية أو على حسابها. هي قبل ذلك دولة سيادة القانون ومحاربة الفساد وتولية الكفاءات للمناصب العامة. وهي العوامل التي بسببها، وليس بسبب غياب الديمقراطية، تحققت المعجزة. إذ بحسب المبادرة العالمية لحال الديمقراطية أيضاً، تتربع الدولة "غير الديمقراطية" ضمن "أفضل 25 بالمئة من البلدان في ما يتعلق بالكثير من جوانب سيادة القانون و(احترام) الحقوق". كما إنها تحتل بشكل متواصل موقعاً متقدماً عالمياً ضمن الدول الأقل فساداً، وصولاً إلى المركز الثالث وفق مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية العالمية العام 2024.
وإذا كان من المبكر، بعد قرابة سبعة أشهر من التحرير، الحكم على أداء القيادة السورية على صعيد سيادة القانون ومحاربة الفساد المتغلغل في البلاد، فإن الأداء في ما يتعلق بمؤشر تولية الكفاءات لمواقع المسؤولية يبدو، بألطف تعبير ممكن، مثيراً للقلق والتوجس والإحباط.
هكذا يكون "منطقياً" الاستنتاج بأن سوريا "الجديدة" تمضي في طريق نهايتها لا تنمية اقتصادية، ناهيك بمعجزة، ولا ديمقراطية!
لكن هذه "المنطقية" لا تصح إلا بالإقرار باستنادها فقط إلى تسليم واستسلام كاملين لإرادة السلطة الجديدة و/أو إرادة المجتمع الدولي، بحيث تكون الديمقراطية محض منحة من هذين الطرفين، لا يبدو أنهما بوارد تقديمها. وإذا كان لا يُعقل افتراض أن تتنازل السلطة، أي سلطة في أي دولة، طوعاً عن امتيازاتها، بل العكس، فإن الديمقراطية المفروضة من الخارج لم تكن ولن تكون في منطقتنا كلها، سوى هيمنة وتقسيم "ناعمين" باسم المحاصصة "الديمقراطية"، نهايتها الانهيار شللاً للدولة السورية في أحسن الأحوال، إن لم يكن تقسيمها فعلياً.
وهكذا تسليم واستسلام عدميين يعنيان، بداهة، تغييب إرادة السوريين الذين يريدون حتماً، ككل شعوب الأرض، تنمية وكرامة وحرية، وبهم وحدهم يمكن خلق ديمقراطية وطنية حقيقية متجذرة، لا هياكل شكلية قابلة للهدم في أي لحظة.
وهذا التغييب بدوره ليس إلا تجسيداً لعجز من يفترض أنها "نخب" سورية عن التعبير عن تلك الإرادة، وشرطها الأساسي جرأة بدء العمل على بناء هوية سورية وطنية جامعة لا يريد أحد الاعتراف بأنها لا تزال مفقودة لحساب هويات متخيلة باسم الأمة العربية والأمة الإسلامية، ناهيك بهويات ما دون وطنية قاتلة.
بغير هذا الجهد السوري الوطني المنتظر، يغدو "منطقياً" فعلاً أن تكون الفترة الحالية ليست أكثر من مرحلة انتقالية بين استبدادين، من دون اقتصار المسؤولية على السلطة المستبدة وحدها.