هدايا الغد العاثر
klyoum.com
د. عبدالرؤوف الخوفي
عندما كنتُ في الصف الأول الابتدائي.. أجبتُ على سؤالٍ طرحه معلمي فأشاد بي، وطلب من زملائي أن يُصفّقوا لي بحرارة. هرع المعلم بعدها إلى حقيبته يبحث عن هدية، لكن الهدايا كانت قد نفدت منه، فوعدني بهدية متميزة في الغد.. آهٍ من الغد، كم كان طويلًا على حياة طفلٍ صغير يترقّب لحظةً لا مثيل لها!
ما إن انتهت الحصة حتى تجمهر زملائي حولي.. منهم من نظر إليّ بعين الحظوة، ومنهم من أبدى دهشةً من إجابتي.. كان شعوري أشبه بالعُبور تحت شلال من الخيالات.. خيالات التتويج الكبير المُنتظَر، وموكب العظمة الطفولية المُعتبَر؛ حيث الأصابع كلُّها تُشير: «انظروا! هذا هو الطالب الذي ربح الجائزة».. شعرتُ بغيمة فخرٍ عظيمة تطفو فوق رأسي وتُلاحقني أينما ذهبت، لقد صَنَعَتْ تلك الإجابةُ بحقٍ يومي، ومنحتني بهجةً ونشوةً لا حدود لها، وبالكاد مرَّ ذلك اليوم الكسول..
جاء الغد الموعود بعد أن قتلني أملاً وملأني شغفًا.. جلستُ في الحصة الأولى متأهبًا أحاولُ أن أبدو واثقًا وغير مبالٍ، إلا أنّ مُعلمي أنهى الدرس ولم يذكر شيئًا عن الجائزة.. قلتُ لعلّه يمتحن صبري، ومع ذلك بدوتُ مُتماسكاً، وجاءت الحصة الثانية وإذا به يُثني على طالب آخر كثنائه بالأمس عليَّ أو أشدّ ثناءً، وهكذا مرّت الحِصص تباعًا، وانتهى اليوم الدراسي، ولم أتجرّأ على طلب ما ظننتُ أنه لا يُطلب، لأعودَ إلى المنزل خالي الوفاض.. ومرّت الأيام تلو الأيام والشهور تلو الشهور، وأنا لم أنل جائزتي إلى يومنا هذا..
غير أنّ ذلك الموقف الطفولي لم يذهب سدى، فهو لم يمنحني جائزة مادية، بل منحني درسًا امتد بعيدًا في الحياة..
لقد أدركتُ أنّ الغد ليس وعدًا بالضرورة، وليس صندوقًا نملؤه بالأمنيات، تلك اللحظة الطفولية البريئة لم تتركني كما كنتُ، بل فتحتْ لي نافذةً على طبيعة البشر والوعود المؤجلة، وعلى شهوة الأمل التي تسكن كلّ إنسان، لقد عرفتُ أنّ الحياة مليئة بغدٍ لا يأتي أبدًا، وأنّ المرءَ إنْ علّق قلبه دومًا بوعود الآخرين، فإنه سيعود مُثقلًا بخيباتٍ صغيرة تنمو لتُصبح دروسًا كبرى.
لقد تعلّمتُ أن النوال قد يجيء في هيئة معنى لا هدية، وأنّ القيمة لا تُقاس بما نحمله بين أيدينا، بل بما يترسّخ في أعماقنا، وأنّ الثقة قيمةٌ في حدّ ذاتها إذا ما أصغيتُ إلى صداها الداخلي، فليس المهم أن أمتلك شيئًا في يدي بقدر ما أن أحتفظ بشعور الإنجاز في قلبي.
لم أُدرك أني قد تسلّمتُ جائزتي فعلاً منذ لحظة الإجابة التي منحتني تقديراً لذاتي ويومًا كان من أسعد أيام حياتي. لقد فهمتُ أنَ التقدير لا يُقاس بما يمنحه الآخرون، بل بما يناله المرء من ثقة ذاتية ومُكنة نفسية ومرونة تتقبّل مسالك الحياة كيفما بدت؛ حيث الخيبة تتهادى ضعيفة من الخارج، والنشوة تتداعى قوية من الداخل.
لقد أدركتُ أن الحياة مليئةٌ بوعودٍ تتدثّر في ثوب الخيبة، ومع ذلك ففي داخل كل خيبة بذرة قوة، وهي أن ترى نفسك بعينك لا بعيون الناس؛ حيث فكرة القبول وحقيقة أنّ العالم لا يُدار بما ننتظره أو نشتهيه، بل بما نُنجزه ونبنيه لأنفسنا.
إنّ الغد الذي لم يأتِ قد علّمني أن أنظر إلى نفسي بصفتي صانع المعنى لا مُتلقّيه فحسب. وأن أكتشف أن الهدايا الكبرى ليست في حقيبة المعلّم ولا في خزائن الحياة، بل في قُدرة الإنسان على تحويل الصبر إلى إصرار، والخيبة إلى حكمة. وأنّ أُقدِّس العطاء دون شروط، تمامًا كما هي إجابتي التي جاءت دون توقّع جائزة.
لقد منحني صمتُ معلمي الطويل درسًا في فلسفة الوعد المشلول وفن انتظار ما لا يأتي، لقد فهمت لاحقًا أنّ بعض الوعود تُولد ميتة، لكنّ قيمتَها تكمن في ذلك الأمل المؤقت، وكيف أنّ هذا الأمل نفسه لا الجائزة كان المنحة الحقيقية، وكيف أنّ الوعد المنسي يُعلّمك الاعتماد على ذاتك.
إنّ الجوائز التي لا تأتينا تترك مكانًا لأشياء أهمَّ تتمثّل في لذة المعرفة ذاتها وشجاعة المواصلة دون حوافز.
لقد صارحتني الحياة مُبكرًا بأن الوعد قد يكون مُجرّد كلمة طائشة في فم الانشغالات، وأنّ القيمة الحقيقية تكمنُ في الثقة التي تُولد من رحم التجربة؛ إذ الإنجاز الحقيقي هو البقاء وفيًّا لشغفك.
ربما أنّ معلمي قد نسي في زحام الحياة، لكنني تذكّرتُ.. وتذكِرَتي هذه علّمتني أن كلمة غدًا قد تكون الأكثر خداعًا، فالغد يحمل شمسًا جديدة، وربما نسيانًا جديدًا.
وهكذا صار درسي الأول في الحياة: لا ترهن فرحك بوعدٍ عابر أو غدٍ عاثر، بل كن أنت الجائزة التي يفي بها الزمان، إنّها ذاتك العظيمة التي لا تملك ما هو أثمنُ منها، إنّها قيمتك التي صنعتْ هذه الطاقة بداخلك، إنها قناعتك التي أفرزتها لذّةُ الحدث بعيدا عن ماديّاتٍ ستبلى، وآمالٍ لن تَعبُر من خلالك أبداً.