اخبار السعودية

جريدة الرياض

سياسة

ريـــادة سعــوديــــة فــي الــذكاء الاصطنـاعـي

ريـــادة سعــوديــــة فــي الــذكاء الاصطنـاعـي

klyoum.com

م. سعد بن إبراهيم المعجل

لم يكن الذكاء الاصطناعي يوماً ترفاً معرفياً، ولا نزعةً تقنية محصورة في وادي السيليكون، بل هو اليوم أداة سيادية، ومورد استراتيجي، لا يقل أهمية عن النفط والمياه. والدول التي أدركت هذه الحقيقة باكراً، قطفت ثمارها سريعاً علماً وتأثيراً واقتصاداً.

وهنا، لا يمكن تجاهل ما حققته المملكة العربية السعودية في هذا المضمار؛ فالتحولات التي تقودها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا"، لم تأتِ من فراغ، بل من رؤية واعية بأن المستقبل، بكل تحدياته، سيُصاغ بالكود والخوارزميات، لا بالمصادفة.

من الرؤية إلى التنفيذ

حين أطلقت "سدايا" الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، لم تكن مجرد وثيقة معلقة على رفوف الاجتماعات، بل رأينا ترجمتها على شكل مشاريع، وشراكات دولية، ومنصات رقمية تخدم المواطن والمقيم، وتُسرّع من عجلة التحول الرقمي في الجهات الحكومية. الذكاء الاصطناعي عندنا لم يبقَ حبيس الجامعات أو أوراق المؤتمرات، بل تسلل إلى الواقع؛ في الخدمات الصحية عبر تحليل الأشعة، وفي المرور بتحليل الحوادث، وفي البلديات بتحسين التخطيط الحضري، وغيرها كثير. وكان من أهم المبادرات التي أطلقتها المملكة تأسيس شركة "هيوماين"؛ التي تعد المحور الأساسي لترجمة طموح المملكة في تصدير منتجات الذكاء الاصطناعي من خلال إنشاء مركز بيانات متطور، وتقديم خدمات ذكاء اصطناعي سحابية ونماذج لغوية متعددة الوسائط بالعربية، ومؤخراً تم إطلاق تطبيق «هيوماين تشات»، وهو تطبيق محادثة تفاعلي باللغة العربية من الجيل التالي، مدعوم بنموذج "علّام 34B"، وهو النموذج اللغوي العربي الرائد لشركة «هيوماين»، وقد خضع لاختبارات في تطبيقات حساسة، منها «صوتك»، وهي أداة مخصصة لتفريغ محاضر الجلسات القضائية في السعودية؛ فـ"هيوماين" تمثل خطوة جريئة نحو تأسيس صناعة وطنية قادرة على التصدير فعلياً في مجال الذكاء الاصطناعي، وستجعل المملكة مزوداً مهماً وعالمياً للبنية التحتية الذكية بدلاً من مستهلك فقط للذكاء الاصطناعي.

حضور عالمي لا يُستهان به

حين تستضيف الرياض القمم العالمية للذكاء الاصطناعي، ويجلس في قاعاتها قادة التقنية من الشرق والغرب، فهذا ليس صدفة، بل إشارة واضحة أن السعودية لم تعد مجرد متلقٍ للتقنيات، بل صانع لها.

وقد رأينا نتائج ذلك في فوز المملكة بمقعد في المجلس العالمي للذكاء الاصطناعي، وتصدّرها لمؤشرات التقدّم الرقمي على مستوى دول G20؛ هذه مؤشرات لا تُشترى، بل تتحقق بالعمل الجاد، والوضوح في الأهداف.

التحدي القادم: الصناعة المحلية

لكن، وبرغم هذه المنجزات، أجد -كصناعي قبل أن أكون كاتباً- أن التحدي الأكبر يكمن في ترجمة هذا التقدّم التقني إلى منتجات محلية تُصنّع وتُصدّر، لا يكفي أن نستورد حلول الذكاء الاصطناعي من الخارج ونركّبها محلياً.

نحتاج إلى بيئة تُنتج الخوارزميات، وتُشغّل مراكز البيانات، وتُدرّب العقول الوطنية، نريد أن نرى تقنيات الذكاء الاصطناعي في المصانع، والموانئ، وشركات البتروكيميائيات، لا فقط في التطبيقات الحكومية.

قراءة في التجربة الصينية

لعل أبرز التجارب التي تستحق التوقف عندها هي تجربة الصين، التي لم تكتفِ بتبنّي الذكاء الاصطناعي كمجال بحثي، بل حوّلته إلى أداة هيمنة صناعية واقتصادية.

منذ عام 2017م، وضعت بكين خطة قومية لتصبح رائدة عالمياً في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، وسخّرت لذلك كل أدوات الدولة، من التمويل إلى التشريعات إلى البنية التحتية الرقمية. واليوم، نرى نتائج هذه الخطة أن الذكاء الاصطناعي دخل في خطوط الإنتاج، والزراعة الذكية، والتخطيط الحضري، وحتى إدارة المرور والمدن. والحكومة حفّزت القطاع الخاص بقوة، ووفّرت له بيئة اختبار وتشغيل واسعة، دون بيروقراطية خانقة. والأهم من ذلك، أن الصين لم تستورد التقنيات وتكتفِ باستخدامها، بل بَنَت قدراتها محلياً، وصنعت أدواتها، وخلقت سوقاً تنافسياً داخل حدودها.

أخيراً.. إن المملكة تمتلك عناصر القوة التي تؤهلها لتبنّي نموذج مشابه مع مراعاة السياق المحلي؛ حيث هناك إرادة سياسية واضحة كما ظهر في رؤية 2030، والدعم المباشر للبيانات والذكاء الاصطناعي، ورأس مال بشري شاب ومتعلم لديه شغف بالبرمجة والتقنية، وموارد مالية وبنية تحتية متطوّرة. لذلك أتمنى تسريع الانتقال من الاستهلاك إلى التصنيع؛ لا نريد أن نبقى مجرد مستخدمين لتقنيات مطوّرة في الخارج، بل يجب أن ننتجها بأيدينا، ونملك حقوقها، ونصدرها من مصانعنا، والعمل على ربط الذكاء الاصطناعي بالتصنيع، والتعليم، والاستثمار طويل المدى في العقول السعودية. لدينا فعاليات ومبادرات كثيرة، لكن ما نحتاجه فعلاً هو أن نرى الذكاء الاصطناعي داخل خطوط الإنتاج، لا فقط في قاعات العروض، يجب تحويل كل مصنع جديد إلى مصنع "ذكي بالتصميم"، وربط المبادرات الحكومية مباشرة بالمصانع عبر حوافز مرتبطة بالتحول التقني الفعلي وليس الورقي، والعمل على توطين النماذج والخوارزميات داخل القطاع الصناعي، وإطلاق "أكاديمية صناعية للذكاء الاصطناعي" تُعنى بتخصصات دقيقة كتحليل بيانات المصانع، وبرمجة الأنظمة الصناعية الذكية، وصيانة الأنظمة المعتمدة على AI، والأمن السيبراني الصناعي، فالذكاء الاصطناعي اليوم ليس "تكنولوجيا متقدمة"، بل هو عنصر بقاء صناعي، ومن لا يُدخل الذكاء في مصنعه، سيُخرج نفسه من السوق، ولو بعد حين. فالسعودية، اليوم، أمام فرصة تاريخية لتكون مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي، كما كانت وما زالت محوراً للطاقة العالمية. وفي نهاية المطاف لا قيمة لأي تقنية إن لم تُخلق لتُنتج، وتُصدّر، وتُخلّد أثرها في اقتصاد الوطن.

*المصدر: جريدة الرياض | alriyadh.com
اخبار السعودية على مدار الساعة