"جيل Z".. ناشئة يبحرون في عوالم كتب الكبار
klyoum.com
الرياض – "الرياض"
يتكرَر في أروقة معرض الرّياض الدّولي للكتاب 2025م مشهدٌ لم يعد غريبًا كما كان في السَّابق: مراهقٌ يبتعد عن جناح القصص المصوّرة الحديثة، ليتوقَّف متأمّلًا غلاف كتابٍ يوثِّق سيرة أحد المفكّرين، وعلى مقرُبة منه تنْحني مراهقةٌ على روايةٍ فلسفيّةٍ تُقلّب صفحاتِها بشغف، فيما تُتابعها والدتُها بنظرةٍ تجمع بين الدَّهشة والفخر. ولم تعد هذه اللحظات استثناءاتٍ عابرةً، حيث صارت ملامح ظاهرة راسخة في قلب أكبر حَدَث ثقافيّ بالمملكة، لتفتح باب السّؤال: ما الذي يدفع جيلًا وُلد في عالم السُّرعة والمحتوى الرَّقمي الخاطف إلى الانجذاب نحو كتب ارتبطت بالكبار؟
ووفقًا لما ذكره مسؤولُ مبيعات في إحدى دور النَّشر العربيَّة، يلحظ تزايد الإقبال على النّسخ المترجمة من كتب "مدخل إلى الفلسفة"، وكان مُعظمُ المشترين من فئةِ المراهقين، مضيفًا: "لم نتوقَّع هذا الإقبال منهم على الإطلاق"، وتتقاطع شهادتُه مع ما أكَّده ناشرون آخرون لاحَظوا اهتمامًا متزايدًا بعناوين مثل: "مقدمة ابن خلدون" بنسخها المبسّطة، وكتب التّاريخ التي تحلل صعود وسقوط الحضارات، وسِيَر القادة والمبتكرين.
وعند سؤال "محمد الحمد" (12 عامًا) عن سبب اختياره كتابًا يتحدَّث عن علم الفلك بدلًا من القصص، قال: "القصص الخياليّة ممتعة، لكنّي أريد أن أعرف كيف يعمل الكون حقًّا، هذا الكتاب يجيب عن أسئلتي". فيما فضّلت "نهى القحطاني" (15 عامًا) شراء رواية لدوستويفسكي على مجموعة قصصيّة للفتيات، قائلة: "أريد أن أفهم النَّفس البشريّة"، وعلّق والدها: "لم أتوقَّع أن تختار ابنتي هذا النوعَ من الكتب، لكنّي شعرت بالفخر لرغبتها في التَّعمُّق". على حين يرى ناشرٌ مشارك في المعرض أنّ "جمهور الصِّغار أصبح أكثر جرأةً في اختياراته، ويبحث بنفسه عمّا يثير فضولَه بدل الاكتفاء بما يُعرض عليه".
ويَعكس هذا التَّوجُّه ملامحَ جيلٍ جديد يتعامل مع القراءة كوسيلة لاكتشاف الذّات والعالَم، وليس وسيلةً للتّسلية والتّرفيه فقط، ورغم أنّنا نعيش في زمن هيمنةِ مقاطع الفيديو القصيرة إلّا أنّ "الجيل z" يرى في الكتاب الورقيِّ ملاذًا يوفّر عمقًا وتأمُّلًا تفتقر إليهما الشّاشات الرّقميّة، وتؤكّد هذه الظاهرةُ نجاحَ شعار هذا العام "الرياض تقرأ"، الذي يتجاوز مجرَّد التَّشجيع على القراءة، إلى تعميق أثرها في المجتمع وصناعة جيلٍ قارئ مختلف.
ويحتضن معرضُ الرّياض الدّولي للكتاب أكثر من 2000 دار نشر ووكالة من مختلف أنحاء العالم، ليكون بيئةً مثاليّةً لهذه الظّاهرة، فبتنوُّعه الهائل يتيح لليافعين حريَّةَ استكشاف اهتماماتهم دون قيود، متجاوزين التَّصنيفاتِ العمريَّةَ التّقليديَّة، إذ لم يَعد المعرضُ مجرَّد سوقٍ لبيع الكتب، بل تحوَّل إلى تجربةٍ ثقافيَّةٍ متكاملة تُعزِّزُ الحوار وتوسّع الآفاق، وهو ما ينسجم مع مستهدفاتِ رؤية السّعودية 2030 في بناء مجتمعٍ معرفيٍّ مبدع.
ويرى مختصُّون في التَّربية وعلم النَّفس أنَّ الميل المبكِّر نحو الموضوعاتِ المعقَّدة هو مؤشرٌ على وعيٍ متزايد ورغبةٍ فطريَّة في الفَهم لدى جيلٍ يمتلك وصولًا غير مسبوق إلى المعلومات، حيث إنّ "هؤلاء الأطفالَ يطرحون أسئلةً كبيرة في سنٍّ أصغر، والكِتاب يقدّم لهم مساحةً آمنة ومنظَّمة لاستكشاف الإجابات". مؤكِّدين أنّ "دور الأهل هنا المشاركةُ في الحوار وتشجيعُ الفضول وتوجيهه، فهناك جيلٌ قادمٌ يقرأ بعَين مختلفة ويعيد تعريفَ علاقته بالكتاب، وعلى الجميع الاستعداد لمواكبته".
وتفتح هذه الظاهرةُ آفاقًا جديدة لصناعة النَّشر، فهي تدعو إلى تطوير محتوًى بلغة شبابيَّة تجمع بين السَّلاسة والعمق، مثل الفلسفة المبسّطة، والتّاريخ المصوّر بأسلوب قصصي، والسِّيَر الذَّاتيَّة، ولا شكّ أنّ الاستثمار في هذا النّوع من الكُتب يعزِّز من تنافسيَّةِ المحتوى العربيّ عالميًّا، تماشيًا مع الاستراتيجيّة الوطنيّة للثَّقافة التي تدعم الابتكار في مجالات التّأليف والتّرجمة.
يُذكر أنّ المعرض يفتح أبوابه يوميًّا للجمهور على مدار عشرة أيام، من الساعة 11 صباحًا حتى 12 منتصف الليل، باستثناء يوم الجمعة، حيث يُفتح من الساعة 2 ظهرًا حتى 12 منتصف الليل، ليأخذ الزُّوَّارَ في رحلةٍ ثقافيّة ومعرفيّة مميّزة عبر أجنحته العديدة التي تضمُّ أحدث الإصدارات التي تعرضها أهمُّ دور النّشر المحليّة والعربيّة والعالميّة، إلى جانب برنامجه الثّقافيّ الغنيّ، الذي يُعد الأكبر والأكثر تنوعًا في العالم العربيّ، وقاعاته ومنصَّاته التي تستضيف أبرز الأسماء في عالم الثّقافة والفكر والأدب، مما يُعزِّز مكانتَه كملتقًى ثقافيّ ومعرفيّ رائد في المملكة والمنطقة.