القارئ والمؤثر
klyoum.com
أخر اخبار السعودية:
نوكيا تضخ 4 مليارات دولار لتطوير الذكاء الاصطناعي في أمريكاسامي بن أحمد الجاسم
لم يعد المشهد الأدبي اليوم يتشكل داخل المكتبات، ولا ينتعش في الندوات، ولا يكبر داخل ورش الكتابة، صار المشهد يُصنع في مكان آخر تمامًا: على شاشة صغيرة، في يد شخص لا يكتب حرفًا، لكنه يقرر بطريقة ما يجب على الملايين أن يقرأوه.
هذه هي القضية الحساسة التي تختبئ خلف الوهج الجديد: اختفاء الذائقة الحقيقية، وصعود «المؤثر الأدبي» الذي لا يمتلك من الأدب إلا صوته العالي وحضوره الرقمي. يظهر المؤثر على منصته، يرفع كتابًا أمام كاميرته، يبتسم، يلمع غلافه، يلتقط صورة، ثم يقول: «هذا الكتاب مذهل»، خلال دقائق، يمتد طابور طويل داخل المكتبة، ليس لأن الكتاب استثنائي، بل لأن الكاميرا قالت إنه كذلك.
وفي اللحظة نفسها، يقف كتاب عميق –عاش كاتبه سنوات وهو يولد فكرته– يتفرج على السوق من بعيد؛ لا أحد يلتفت إليه لأنه لا يصلح للتصوير، ولأن غلافه لا يضمن ربع ثانية من الانبهار البصري.
هذه هي الأزمة العميقة: الأدب صار تابعًا للصورة، لا للفكرة. الذائقة الحقيقية كانت تُبنى على قراءة متأنية، ورأي صادق، وتفاعل وجداني مع النص.
اليوم، تُبنى الذائقة على: شكل الغلاف، زاوية الإضاءة، ومدى قابليته للانتشار في «لقطة» جذابة مدتها 12 ثانية،
في زمن كهذا، تتحول الكتب إلى منتجات تجارية، وتتحول القراءة من رحلة إلى «استعراض»، ويصبح القارئ تابعًا للترند بدل أن يكون باحثًا عن المعنى.
الأخطر أن المؤثرين نجحوا في خلق جيل جديد من القراء لا يعرف كيف يختار بنفسه، جيلًا ينتظر أن يقول له أحدهم: «هذا يناسبك»، بدل أن يقول هو: «هذا يشبه عالمي»، جيلًا يشتري الكتب بالمزاج الجماعي، لا بالمزاج الشخصي، ويقرأ ليُظهر أنه قارئ، لا لأنه يريد أن يعرف.
هنا تبدأ الكارثة الأدبية: الكتب العظيمة تنطفئ لأنها لا تملك من يمسك الكاميرا، ولا الدعاية الرقمية، ولا مؤثرًا يكتب عنها. والكتب العادية تلمع لأنها تمتلك من يصنع الضوء لها، فتجد من يشتريها بل ويصطف في طوابير طويلة لشراء كتب مشاهير أو يوتيوبرز أو سنابيين.
النقد الحقيقي اختفى، وحلّ مكانه «رأي منتشر»، التحليل العميق اختفى، وحلّ مكانه «تقييم سريع».
الذائقة التي كانت تُصنع من تراكم سنوات، أصبحت تُصنع من مقطع مدته ثلاثون ثانية يضرب وينتشر ويحقق شهرة.
لم يعد القارئ يتأمل اللغة، ولا يبحث عن السياق، ولا يسأل عن الفكرة التي تصنع أثرًا في داخله.
صار يسأل فقط: كم مرة ظهر هذا الكتاب؟ من رشحه؟ كم يملك من المتابعين؟ هل يناسب حسابي لو صورته؟
هذا التحول ليس بسيطًا؛ إنه يغيّر مستقبل الأدب نفسه.
فحين يتراجع دور النص، ويتضخم دور المؤثر، يختل ميزان القيمة: تصبح الشهرة معيار الجودة، والتفاعل معيار العمق، والظهور معيار الاستحقاق. حين يختل هذا الميزان، يسقط الأدب من يده الأصلية ويقع في يد لا تفهمه. يد تعرف كيف تلتقط صورة، لكنها لا تعرف كيف تلتقط معنى.
ويبقى السؤال الخطير الذي يجب أن يُطرح بلا خوف: هل سنسمح للمؤثرين أن يصنعوا لنا ذائقتنا، أم نستعيد ذائقتنا من يدهم قبل أن نصحو على مشهد لا يشبه الأدب أصلًا؟
الأدب لا يحتاج إلى جمهور كبير بقدر ما يحتاج إلى قارئ واحد حقيقي، قارئ يعرف أن قيمة النص لا ترتبط بما يتركه في داخله من أثر لا يُرى بالكاميرا، ولا يُقاس بالمشاهدات، ولا يُتداول على المنصات. هذا هو العمق الذي يغيب اليوم، وهذه هي القضية التي يجب أن تُقال بصوت واضح: الأدب يجب أن يعود إلى مكانه الطبيعي.. إلى القارئ، لا إلى المؤثر.