العبودية الوجوديّة
klyoum.com
أخر اخبار السعودية:
سكني و جاهز يوقعان مذكرة تفاهم للتكامل الرقميد. سوسن العتيبي
ينطلق مشروع "سيد نقيب العطّاس" لإصلاح المعرفة؛ بتمييز عميق للمعارف، ونقد عملي للترجمة، باحثاً في الدلالات؛ حيث تتخذ الدلالات عند ترجمتها أو نقلها لا مقابلة بالمطابقة والالتزام ونحو ذلك، بل تعريف يجمع بين التداول والخصوصية السياقية والدينية في النقد والبناء، واستعماله الخاص للطريقة الإشارية للتفسير عند البناء. ولئن كان قد قدّم توضيحاً لـ"فساد اللغة"، وأنّ "إسلاميّة المعرفة" لا تمرّ إلا من خلال "إسلاميّة اللغة" -كما تقدّم في المقال السابق-؛ إلا أنّه في المجال الإسلامي اتسع عند تحديد الدلالات، معبّراً عن طريقته في النظر، والتأويل، والتفسير، التي استقى مادتها من الوحي والمصادر التراثية التابعة؛ بالتركيب الهيكلي للدلالات، وفق بنية مفهومية كبرى، مع أخذ كبير بالإشارات البعيدة، لإعادة تشكيل العلاقات (ووفق بعض المنهج البنيوي أساس البنية العلاقات، وعلاقاته هنا أساسها إشاري، أضعف أنواع التفسير). وقد ارتكز في أصل رؤيته الكونيّة على مقابلة بين سياق وسياق، وهو الذي يجلّي باللغة؛ الرؤية الكونية لكل أمّة. غير أنّه في حقيقة الأمر ناظر في الدلالات داخل المجال التداولي الإسلامي نظراً تأويلياً، لا أنه يقدّم الاستعمال القرآني كما هو-وإن كره وانتقد دلالة "نظر" في معرض حديثه عن "النظرة إلى العالم World view"-، وهذا النظر اتسم بجمع الدلالات اللغوية وفق السياق القرآني، وبطريقة إشارية، يبني بها هيكلاً مفهومياً لكلمة واحدة، تشبه طريقة "توشيهيكو أوزيتسو" المستعرب الياباني.
وجانب النقد للفكر الغربيّ عند العطّاس قويّ حقاً، ويدخل في مفاصل دلالات المفاهيم الوافدة، ويستخلص مقتضيات قد لا يعيها كثير من الناس، غير أنّه حينما ينطلق من السياق الإسلامي؛ ينزل لتكييفه بحسب رؤيته التأمّلية، بحسب ما يعرض له من تأملات ونظر في الدلالات. فعندما انتقد "العلمانيّة" أحسن وأجاد، ولكن حينما قدّم دلالة "دِيْن" أدخل هذه الدلالة في هيكل مفاهيمي شكّل من خلاله ترابطاً فلسفياً جميلاً، وإن لم يكن محكماً لغلبة إشاريته، لهذه الدلالة؛ ليثمر معنى "العبودية الوجوديّة"، والتي سيكون منطلقها من كلمة "دِيْن".
فأوّلاً بيّن الإخلال بدلالة "دين" حينما تترجم عادة بـ "Religion"، في مقابلة بين دلالتين مختلفتي السياق والأساس بشكل تام، رغم أنّ "Religion" من خلال تاريخها الديني الغربي مظلة لدلالات تتعارض مع الدلالة الإسلامية (وهي متأخرة نسبياً؛ ظهرت في سياق إلحاديّ في العصور الحديثة). فحينما نشير للدلالات الإسلامية الكامنة، فهذه إشارة لصورة متكاملة عنوانها وأساسها كلمة "دِيْن"؛ بوصفها الوحدة المهيمنة والعاكسة للدلالات القرآنية، والمفاهيم العربية في أصولها. فالترجمة والنقل ليس لفظ له دلالة مقابل لفظ له دلالة، بل الدلالات وحدات ضامّة ومشكّلة لدلالات كامنة، فيها ما هو رئيسي، وفيها ما دون ذلك؛ مما يغذي ويقوّي هذه الوحدة بالتعالقات المتعددة؛ وهذه التعالقات يبنيها العطّاس إن بالمعنى المباشر، أو الأكثر بالإشارات؛ التي يتكلّف تعليقها بغيرها، في دلالات سيميائية، يربطها بمجموعات، كل مجموعة تحتها معانٍ متعددة.
ولعلّ مدخله الأول هو دلالة "دِيْن" في صلتها بـ "دَيْن"، ليفترض أوّلاً: أنّ هذه الدلالات القرآنية الأصلية يمكن أن تنعكس على المجتمعات، لأن ما يميز الدلالات القرآنيّة أنها في أصلها من فطرة الإنسان، فهي كامنة فيه كمون الأصل الواحد، للوحي والإنسان، ومن ثمّ (ثانياً) يبرهن عليها بواقع المجتمعات تحت مظلة "المديونية" وكيف تنشأ المدن! فينزع العطّاس لطريقتين: طريقة بها يستخلص الدلالات من التفاعلات الإنسانية الفردية والاجتماعيّة، ويوظفها ليعيدها لأصلها الأوّل، وفق المفاهيم المؤسسة، وهو هنا "الدِيْن" من باب "الدَيْن". والطريقة الثانية يعيد تشكيل الدلالات القرآنية بطريق الإشارة غالباً، ليربط بين الدِيْن، والوجود، والسلوك، والقيم، والآخرة. وقد أخذ من دلالة "ديْن" أربع معانٍ أساسية مميزة له، وهي: 1) الدائنيّة (المديونيّة Indebtedness) 2) الخضوع (submissiveness) 3) السلطة الحكيمة (judicious power) 4) الانحراف أو النزوع الطبيعي-الفطري (Natrual inclination or tendency). وبهذه المعاني يقيم كشفاً لها في حاضرنا، وما القائم منها، وكيف استبدلت السياقات وبقيت هذه الدلالات الفطرية، المرسومة أصالة لأول المعاني الفطرية المقصودة.
فدلالة "العبودية الوجوديّة" يأتي من منطلقها كلمة "دِيْن" التي يربطها بأسرتها اللغوية، بـ "دَيْن"، وما يصاحبها من ترادفات، نحو: قرض، وملكيّة، ودائن، ومدين، ومدينة، وما تتضمنه المدينة من تمدّن، وما تحتويه من أعضاء: الحاكم، المحافظ، القاضي... إلخ، في تشكّلات منطلقها في الخبرة البشرية من علاقة "الدائن" بـ "المدين"، وفق دلالة "المديونية". فيبنيها من جهتين: جهة الخبرة البشرية، وجهة النصّ الإلهيّ في دلالاته اللغوية، ومن ثمّ تلتحم الرؤية الكونية، في مصدر أعلى يقدّم البيان (آيات القرآن)، ومصدر الخبرة البشرية (آيات البشرية في تفاعلاتها المدفوعة بما فطرت عليه)، ليخلص أوّلاً إلى طبيعة الوجود الإنساني، وهي "العبودية الوجوديّة" -وفق تفصيل سيأتي إن شاء الله-. كأنه يقول: المدينة شاهد على الديّان، ويشتهد على ذلك بالقرآن تأويلاً.