الإعلام الذكائي
klyoum.com
د. عبدالعزيز اليوسف
الإعلام الذكائي وإن تذاكى عمليًا وانبهرنا بأدواته فهو في حقيقته العميقة مملوء بالهفوات القاتلة، والغباء المتراكم ويجب ألا يكون استبدالًا لعقل الصحفي، بل يفترض أن يصبح امتحانًا لقدرته على جعل الأدوات خادمةً لمهنيته، ومجسدةً للحقيقة لا متسيدة عليها..
قد يتبدّل وجه المهنة أمام أعيننا، لا لأننا نضيف جهازًا ساحرا إلى الطاولة؛ بل لأننا نعيد تعريف ما تعنيه الكلمة حين تغادر فم الصحفي وتصل إلى شاشة القارئ، فالمحرر ومدير التحرير (الذكاء الاصطناعي) لم يعد عابر سبيل في قاعة الأخبار، بل كأنه صار موظفًا جديدًا يطلب بطاقة عمل ومكانًا في الاجتماع الصباحي؛ فهو "الديسك"، والتحرير، وحارس البوابة، والخبر العاجل؛ معه تسارع المراحل، واختصار المسافات، وجمعٌ عاجل للمواد الخام، وتلخيصٌ للنصوص المترامية، وتوليدٌ لمقترحات وصور وخيارات سردية، وتوزيعٌ يفهم إيقاع المنصات، ويخاطب مزاج الجمهور في لحظته؛ لكنه في الوقت نفسه يضعنا أمام مرآةٍ من أسئلة محرجة: من يكتب حقًا؟ من يحدد ويفكر؟ ومن يختار زاوية النظر؟ ومن يحرس المعنى؟ ومن يرتب المحتوى حين تغريه السرعة وتستعجله انسيابية الخوارزميات؟
إن فتنة الأدوات لا تُخفي ما يرافقها من عِلل؛ فقد نجد مضامين ملوثة، وأخبارا مضللة، ومعلومات متسممة تتقن التنكر في هيئة الحق، وطرائق جذب قد تكرر ما نحب حتى ننسى ما نحتاج، وانزلاق بطيء نحو ذوبان المهنية حين يتحوّل الصحفي من صانع معنى إلى مدير مجموعة من الأدوات.. يضغط الأزرار ويثق بالنتائج أكثر مما يثق ببوصلة المهنة في هذا الزمن ينهض سؤال الأس المعرفي: هل ننشر لأن الأداة الذكائية تعدتنا بالانتشار، أم لأن القصة تستحق أن تُروى؟ وهل يصبح القارئ شريكًا في الفحص أم مستهلكًا مطيعًا لما يُعرض عليه؟
إن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والعمل الإعلامي ليست خصومة ولا ترابطًا كاملًا، هي هدنةٌ مشروطة، تمنحنا آفاقًا جديدة حين نستخدمها بحذر، وتحوّلنا إلى صدى باهت إن سلّمنا لها زمام القرار، فالفرصة هنا أن نستعيد وقتًا ضائعًا في أعمالٍ رتيبة ونستثمره فيما لا تجيده الآلات بطرح الأسئلة التي لا تُقاس، وملامسة تفاصيل البشر، وترتيب الحجة بما يراعي تعقيد الواقع، والتقاط تلك النبرة العقلية التي توازن بين الرصانة والوضوح.
هناك توجس وخطر يكمن في تواكلنا على التوليد واستبدال التحقق بلمعان الشكل، ونرضى ببداهةٍ مسطّحة تُصالح المتلقي على ما يريد لا على ما يحتاجه، أو ما نريد قوله، والأسوأ أن تتراكم انحيازاتٌ صامتة في توصيات وتوجيهات المنصات، فتُقصي أصواتًا وتضخم أخرى، وتحوّل الحقائق فسيفساء مموهة بالإبهار تسرق الإعجاب السريع والتمرّر الفوري، ثم تأتي المهارات لتقف في مفترق الطرق: هل سيكفي الصحفي معرفة «كيف» يطلب من الأداة؟ أم يلزمه أن يعرف «لماذا» يطلب وما الثمن إن لبّت الأداة الطلب على نحوٍ خادع؟
إن مهارات الغد ليست مجرد براعةٍ في إدارة الموجّهات، بل مزيجٌ من حسٍّ أخلاقي يقظ، وقدرةٍ على التحقق الدقيق، وذائقةٍ لغوية تحمي المعنى من الاستسهال، ومعرفةٍ بصناعة القرار التحريري حين تتعارض الشعبية مع الصدق، وعلى الضفة الأخرى يقف المستخدم، تُطارده إشعاراتٌ لامعة وتنبيهاتٌ ذكية، وتخصيصٌ يكاد يعرفه أكثر مما يعرف نفسه، فهل نكتفي بإرضائه بما يشتهي، أم نعرّف دور الإعلام أنه توسيعٌ لأفقه، وإخراجٌ له من غرفة الصدى إلى ساحة الأسئلة الواسعة؟ وما مصير الفكر الإعلامي إن صار يلهث خلف لحظة التفاعل أكثر مما يحرص على عمق الفهم؟ على المؤسسات أن تعلن قواعد لعبةٍ واضحة، وإفصاحا صريحا عمّا استُخدمت فيه الأدوات، مراجعة بشرية لا تُساوم على الدليل، معايير اختيار تُقدّم المصلحة العامة على فورة الخوارزميات، وسياسة صور ونصوص توليدية تُفرق بين التوضيح والإثبات عندها فقط يمكن أن نسأل بثقة: هل سيكون ما ننتجه مهنيًا حقًا؟ الجواب ليس وعدًا شاعريًا ولا نفورًا متشددًا، بل عملٌ يومي يربط كل قصة بأدلتها وحدود معرفتها، ويُبقي القرار الأخير إنسانيًا لأنه وحده يتحمل المسؤولية أمام الناس والتاريخ.
ويبقى القول: الإعلام الذكائي وإن تذاكى عمليًا وانبهرنا بأدواته فهو في حقيقته العميقة مملوء بالهفوات القاتلة، والغباء المتراكم ويجب ألا يكون استبدالًا لعقل الصحفي؛ بل يفترض أن يصبح امتحانًا لقدرته على جعل الأدوات خادمةً لمهنيته، ومجسدة للحقيقة لا متسيدة عليها، فإن نجحنا صنعنا محتوىً يولد سريعًا لكنه ناضج، يفهمه المتلقي ويثق به ويعود إليه، وإن أخفقنا فسنبني ستارا من اللمعان يعجز عن صد أول عصف من الأسئلة بين اختيارين (مهني وأخلاقي) لنحدد بعدها إن كنا سنستقبل عصرًا يوسّع حرية الفهم، أو يضيّقها باسم الراحة الذكية، واللين الرقمي.