الظاهراتية في بحوث الإعلام
klyoum.com
خالد الحلوة
الظاهراتية (أو الفينومينولوجي) هي إحدى المدارس الفلسفية الكبرى المعاصرة، وقد أسسها الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل بوصفها منهجاً فكرياً يهدف إلى وصف التجربة الإنسانية كما يعيشها الفرد مباشرة.
يرى هوسرل أن التجربة الإنسانية ليست مجرد استقبال سلبي للأشياء، بل هي علاقة قصدية يعيشها الإنسان مع محيطه، فالوعي ليس وعياً كلياً مسبقاً، بل هو وعي متجه نحو موضوع ما، أو شيء محسوس في العالم أمامه، مثل طاولة أو كرسي أو كوب قهوة أو كتاب أو غير ذلك. ويشمل ذلك أيضاً ما يعي الشخص من أفكار وأحاسيس داخلية. هذه الأشياء لا تظهر للفرد كوقائع جامدة، بل يعيها كتجربة شخصية لها معنى شخصي مرتبط بوعي شخص محدد في مكان وزمان محدد.
وقدم هوسرل مفهوم (عالم التجربة الحياتية) وهو الإطار الطبيعي اليومي الذي يعيش فيه الإنسان قبل أي تنظير أو دراسة علمية. وهو العالم الذي يعيش فيه الشخص ويتفاعل معه مباشرة في الحياة اليومية البسيطة: في البيت والشارع والعلاقات الاجتماعية واللغة والعادات. هذا العالم المعاش ليس محايداً بل هو مليء بالأفكار والمعاني الضمنية التي توجه إدراك الفرد في كل لحظة.
ومن هنا يظهر مفهوم آخر هو (الأفق) والذي يعني أن كل تجربة أو إدراك لشيء ما لا يحدث في فراغ، بل ضمن خلفية أوسع تمنحه سياقاً ومعنى. إذن، الأفق هو المجال الذي يحيط بكل إدراك جزئي ويفتح إمكانيات جديدة للفهم. على سبيل المثال، عندما ينظر الشخص إلى كتاب على الطاولة لا يراه فقط كجسم مادي مصنوع من ورق، بل يظهر ضمن أفق معرفي وثقافي يرتبط بمفهوم القراءة والتعليم والثقافة والتجارب السابقة. إذن، وعي الشخص وإدراكه للأشياء مشروط دائماً بسياق أكبر يفتح احتمالات للتفسير، ولكنه مرتبط بطبيعة وحدود أفق هذا الشخص.
هذا يعني أن كل شخص يدرك الأشياء ضمن أفق معين يتشكل من خبراته السابقة التي تشمل لغته وعاداته وتوقعاته فالأفق هو الخلفية التي تمنح للظاهرة معناها بالنسبة للفرد. وعندما يلتقي شخصان، لا يعني ذلك أن آفاقهما تتعارض بالضرورة، بل إن كل واحد منهما يأتي بتجربته وأفقه الخاص. وفي التفاعل المشترك يحدث نوع من تلاقي الآفاق. هذا التلاقي يمكن أن يؤدي إلى إثراء متبادل للمعاني: فكل طرف يرى الظاهرة من زاويته، ومع الحوار والتواصل قد ينفتح أفق أحدهما على أفق الآخر، فيتسع المعنى ويتجدد الفهم، لكن في بعض الحالات يمكن أن يحدث تضارب بين الآفاق إذا كانت الخلفيات مختلفة جذرياً (ثقافية، لغوية، قيمية). هنا قد يواجه كل شخص صعوبة في إدراك معنى الآخر، أو قد يقرأ الظاهرة بشكل متعارض، غير أن الظاهراتية ترى أن هذا الاختلاف ليس سلبياً بالضرورة، بل هو فرصة للكشف عن تعدد إمكانيات المعنى.
ثم جاء الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر وقال: إن الظاهراتية ليست مجرد وصف لوعي الإنسان بصفته (عقل) منفصل عن العالم يراقب الأشياء من الخارج كما قال هوسرل، بل إن الظاهراتية هي منهج لكشف (وجود الإنسان في العالم). بمعنى أن الظاهراتية عند هايدجر هي بحث في معنى الوجود نفسه، وليس مجرد وصف للوعي، لذلك فالإنسان عند هايدجر ليس (ذاتاً عارفة) بل (كائناً في العالم)، فالإنسان كائن منخرط عملياً في شبكة من العلاقات والأدوات والمعاني، والظاهراتية لا تقتصر على تحليل كيف يظهر الشيء للوعي، بل تمتد إلى تحليل كيف ينكشف العالم من خلال وجود الإنسان فيه.
على سبيل المثال، الشخص الذي يعزف آلة موسيقية مثل الكمان لا يتعامل معها كشيء مادي أمام وعيه يحتاج إلى تفكير متواصل، بل تصبح إمتداداً لجسده وصوته وهو منخرط في موسيقى تنطلق لحظة بلحظة داخل العالم. وكذلك، سائق السيارة لا يركز بوعي على كل حركة للمقود أو كل ضغطة على الدواسة، بل يصبح الجسد والعين والحركة كلها مندمجة في الطريق والسيارة معاً. فالسيارة هنا إمتداد لوجود الإنسان، وليست مجرد شيء خارجي أمام وعيه. إذن، الإنسان بالنسبة لهايدجر ليس عقلاً مجرداً يقف على مسافة من العالم، بل هو دائماً منخرط في سياق عملي داخل العالم.
وفي مجال الدراسات الإعلامية، يعد الباحث البريطاني بادي سكانيل Paddy Scannel من أهم الباحثين الذين ربطوا الفلسفة الظاهراتية ببحوث الإعلام. وقد تركزت بحوث سكانيل على دراسات الإذاعة والتلفزيون واهتم بما يسمى (طقوس الاستماع والمشاهدة)، خاصة في أوقات البث الحي للأخبار والأحداث والاحتفالات والمناسبات الرياضية وغيرها، مع ربط ذلك بالأسس الفلسفية لفهم وسائل الإعلام. ومن هنا جاء اهتمامه بإدخال المنظور الظاهراتي إلى حقل الدراسات الإعلامية، بحيث يرى سكانيل أن فهم وسائل الإعلام يجب ألا ينحصر فقط في دراسة المؤسسات الإعلامية، أو دراسات التأثير الإعلامي الفردي أو الجماعي. بل يجب دراسة الظواهر الإعلامية بوصفها (تجربة معاشة) ضمن (الحياة اليومية المعاشة).
ولذلك، اعتمد سكانيل على الأسس الفلسفية التي وضعها إدموند هوسرل ومارتن هايدجر، حيث نقل منهما مفاهيم محورية وأعاد توظيفها في سياق دراسات الإعلام. أول هذه المفاهيم هو (الوجود في العالم) كما صاغه هايدجر. فالإنسان عند هايدجر ليس ذاتاً مستقلة تقف أمام العالم، بل كائن يعيش داخل العالم ومنخرط فيه. ومن هنا، يرى سكانيل أن علاقتنا بالإعلام لا يمكن أن تُفهم على أنها مجرد علاقة بين الإنسان والآلة أو بين (المشاهد) و(التلفزيون)، بل هي علاقة وجودية تشكل جزءاً من خبراتنا اليومية.
على سبيل المثال، عندما نشاهد نشرة الأخبار في المساء، أو نتابع بثاً مباشراً لمباراة أو حدثاً عالمياً، فإننا لا نتعامل مع التلفزيون أو الراديو كأدوات تقنية منفصلة، بل كجزء من حياتنا اليومية الذي ينظم وجودنا داخل العالم. إذن، يجب ألا ننظر إلى وسائل الإعلام كأدوات خارجية أو مجرد قنوات اتصال تقنية، بل كجزء من هذا (الوجود في العالم) أي أن الإعلام يدخل مباشرة في خبرتنا المعيشة اليومية ويكوّن نسيجاً من علاقتنا بالعالم.
والمفهوم الظاهراتي الثاني هو (العالم المعاش) حيث يرى بادي سكانيل أن العالم المعاش هو الإطار الذي تعمل فيه وسائل الإعلام كجزء من تفاصيل الحياة اليومية، فهو ليس مجرد محيط خارجي، بل نسيج من الممارسات والطقوس التي تجعل الإعلام متجذراً في وجود الأفراد والجماعات. فمشاهدة نشرات الأخبار أو الاستماع إلى الراديو أو متابعة البث المباشر ليست أنشطة تقنية منفصلة، بل عناصر تنخرط في روتين الناس اليومي وتمنحهم إحساساً بالزمن وبالحضور المشترك.
ومن هنا ربط سكانيل هذا التصور بمفهوم (المجال العام) عند يورغن هابرماس، الذي عرّفه كمجال للنقاش العقلاني والتداول حول القضايا المشتركة. وبالنسبة لسكانيل، وسائل الإعلام لها دور في تهيئة هذا المجال العام عبر العالم المعاش: فهو يوفّر للناس تجربة مشتركة من خلال الوسائط، ويتيح لهم أفقاً معرفياً واحداً حول الأحداث الجارية، مما يمكّنهم من الدخول في النقاش العمومي. إلا أن سكانيل يضيف بعداً ظاهراتياً على تصور هابرماس، مؤكداً أن المجال العام ليس بنية مؤسسية فحسب، بل خبرة معاشة تنبني على كيفية إدماج الإعلام في تفاصيل الحياة اليومية وتشكيله لإحساس الناس بالحضور والاشتراك في العالم.
في الختام، يضيف سكانيل مفاهيم أخرى تدعم التحليل الظاهراتي لوسائل الإعلام، منها مفهوم (التوافق الزمني) أثناء البث الحي، ومفهوم (الحضور)، أي الشعور بالانتقال إلى مكان الحدث، ومفهوم (المشاركة) أي الشعور بالمشاركة والحضور الجماعي مع الآخرين، رغم وجود الشخص في غرفته داخل منزله.