اخبار السعودية

جريدة الرياض

ثقافة وفن

قـــرب الـنـافـذة

قـــرب الـنـافـذة

klyoum.com

عبدالله الصليح*

في ركن قصيّ، جلست أمامي، لوهلة فكرت بالرحيل بعيدًا، لكنها بدت آمنة، مثيرة للفضول، تنقلت بعينيّ ساهما في ملكوتها، تملك حضورًا يريد الحديث، يسحر رغبتي بالبعد، رغم الصمت المقلق، والقرب الغريب، لحظات مرّت، نظرت بعدها إليّ.. بلمعة عين مبهمة، وبدأت تقول:

ـــ كنت أظن... أن الأمر لا يعدو كونه خيالات، فكرة كاذبة يصدقها الأمل، وهمًا ينساق خلف شحوب الواقع الأليم، ليستقر في عقلي، أستمر بالاعتقاد أن بإمكاني يومًا أن أفعله، أن أكونه، دون أن أجرؤ مرة على إفساد كل شيء بتجربته، بدلاً من الوقوف على أعتاب تصديق أنه ممكن، تحدّق.. وتكمل:

ــ شعرت مرّة بقوة رهيبة، تنبأني أن بإمكاني أن أتخفف من كل الثقل، أن يصبح شعوري يتجاوز قوانين الفيزياء، والحركة، كنت واثقة جدًا، وعقلي في لحظتها كان يملك الكثير لاختباره، فقط.. إن استطاع أن يكف عن مقاطعة انسيابي بالشكّ، والخوف، ورهبة أن أكون على خطأ، كلما تمالكت نفسي لوضع آخر درجات اليقين، كان يهتز كالزلزال، كأنما كان ينتظر آخر طوبة أن تستقر، ليعيد كل شيء كما كان، محطمًا، متناثرًا، ومجهدًا؛ عن كونه يود أن يجرب اختبار الأمر من جديد..

تتنهد بعمق، بينما تغمض عينيها وترفع رأسها عاليًا، كأنها تود من الحديث أن يكون مهذبًا، ويكف عن التزاحم على بوابة النطق، رجاءً.. أيها الأفكار ساعديني عليك، أعلم مقدار لهفتك، للتنفس خارجًا، لكنّ نهمك المتسارع، سيفسد الأمر حتمًا، ظللت أنظر إليها بثبات كأنما أسترق الشعور بما يدور بداخلها من حوار، لتعود إلى النظر تجاهي مجددًا، وتكمل الحديث:

ــ أتعلم، مهما كنت محاذياً لليقين، يتطلب الوصول إليه شيءً ما.. لا تعرفه، لكن.. بإمكانك وصفه، إنه كالبقعة التي يتجمع فيها ماء المطر، وأنت تمشي بقدميك الرشيقتين، بحذائك الذي تخاف أن يتسخ، ورداء لا تود أن يتبلل، تحتاج حينها إلى قفزة في المجهول، إلى ما وراء الفاصل، يستحسن.. أن تكون متأخرًا على موعدك، أو أن تكون السماء ممطرة، تستعجلك.. لا بد أن يكون ثمة شيء ملحّ، يحفزك على القفز، شعور مقيم بأنه يتوجب عليك ذلك، وأنه الخيار الوحيد، شعور داهم، تنساق خلفه، تركض عبر نفقه، راجيًا أن ترى شعاع الفرج، ونور اليقين، دافعك هو نصفك الذي يصدقك، وبقيتك الآملة في يقين كامل، لا يرى الفشل الذريع، تخيّل مدى أن تصبح محقًا.

استنار وجهها بينما تبتسم، تنفرج ثناياها عن أجمل ابتسامة ساحرة، تتجعد وجنتاها حول العيون، تنفرج الشفاه ببطء كأنما هي بوابة الروح، ثقيلة جدًا، ومقنعة حقًا، تقنعك وأنت الوحيد الذي تبدو أمامه، كيف أنك الوحيد الذي يعرف السّر، ويصدّقه بيقين، كأنما تسلل الشعور بين عينها وعينك، لسانها وأذنك، حديثها وصمتك، ليتحدا على عقلك، فيتعطل عن شغب الريبة، ويهدأ عن ادعاء النقيض، أو استشعار المخاوف، يهدأ.. كما يتسلل النوم إلى طفل رضيع، بين يدي غريب يلتقيه للتوّ، لم يعرف أبدًا أنه سيكون المنشود، ورغم ذلك مدّ يديه يعرض أن يحمله..

مرت لحظات كساعات، تنظر فيها إليّ، وأتعرف على الدهشة من خلالها، دون حديث هذه اللحظة، سوى حديث الروح الذي استودعته في قلبي، ودثر عقلي، بدت.. كمن يتوجب عليه الرحيل، كالساعي حين أوصل الرسالة، لذلك قالت تختتم الحديث: يومًا ما، ستعلم أنّك محظوظ بقفزتك، نحو اليقين، لولاها، لما استطعت الطيران.. لم تحلق في فيافي الأرض، باحثًا عن مناك، لولا قفزتك الأولى، الوحيدة، لم تكن سترى كلّ ما رأيته من الأعلى، بينما نبقى هنا بانتظارك، عاجزين عن الوصول لما تنعم فيه، مكبلين، بأنا لن نستطيع، لأنّا عباقرة الشك، في كل يقين، رغم ما يتركه الأمر علينا من أثر، يحرمنا لذة التعالي، والتسامي، تنهدت.. وقامت منزعجة، يطاردها الوقت وتحفها الأماني، قالت تودعني: لا عليك.. وداعًا الآن.. أيها الطائر الجميل!

*قاص وكاتب سعودي

*المصدر: جريدة الرياض | alriyadh.com
اخبار السعودية على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2024 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com