اخبار السعودية

جريدة الرياض

ثقافة وفن

سـقوط من الذاكـرة!

سـقوط من الذاكـرة!

klyoum.com

منيرة آل سليمان

بالكاد استطعت أن أصمت، أن أوقف عباراتي المتساقطة وترحيبي الذي بدا ثقيلا وغير مناسب..

توقفت فعلا ولم تتوقف كلماتي الصامتة المثقلة بالاندهاش!

انتفخت بسؤالي، وظننتنه سيدحرجني، والأخريات يركللني بلا مبالاة بها وبي!

لا يزال رنين خطواتي حياً في أذني وأنا أجري لها ما إن عرفت بعودتها للعمل، قفزت فرحاً رغم برودة المتحدثة بخبر مجيئها، ولم أملك الوقت الكافي لأتساءل.. أسقطت كلماتها في أذني باختصار شديد

هدى عادت!

خصتني بالخبر فيما بدا أنه لم يهم أحدا سواي.. تابعت وكأنها تظنني خبرت ما بها أكثر من أنها في إجازة مرضية:

نصح الطبيب بأن تقطع إجازتها المرضية لتختلط بالآخرين لعل ذلك يسرع في استعادة.. وبترت كلماتها وهي تلوح بكفها وتزم شفتيها وتستدير قائلة: وحتى لا تفقد عملها

كنت قد عدت لألتقط دفتري الوردي وقد تشبعت بالحماسة، ورغبة جامحة للكتابة تطربني، وتلك حالة أحبها حين تمتعني الكتابة لا أن تثقلني، نويت أن أهزه في وجهها إيذاناً بموافقتي على طلبها، وفرحت لأنها ستفرح معي وسنستمتع فيما يبدو بالوصف ونبش الذاكرة والقص والحكايا وكل خبرتي ستكون متاحة لها.. غير أن صديقتها التي كانت تطوق كتفيها وكأنها تداري شيئاً ما يجب علي أن أفهمه تلقائياً، وقد عجزت عن تلقي رسالة عينيها، صرت على أسنانها وقالت بحنان مصطنع:

هدى لا تتذكرك ولا تتذكر أحداً حتى أطفالها!

وأشارت بيدها لأواصل صمتي، حينها استجمعت كل طاقات تركيزي ونظرت لها كاد الدفتر يسقط مني، أصبح ثقيلاً على كفي المرتعشة، سقط قلم الرصاص بسنه الرفيع وكأن المبراة التهمت نصفه تدحرج سريعاً وخطوطه الصفراء والسوداء تتداخل أمام عيني حتى اختفى تحت كرسيها

يا إلهي!

كانت عيناها تشخصان في اللاشيء بشرود بالغ، بدت كمن جاء من الماضي أو من المستقبل لكنها حتماً لا تعيش حاضرنا ولا تعترف أنها عاشته يوما! يبدو أنها تقاتل لتعرف، لتتذكر، لتبحث عن ملامحي في ذاكرتها المتوقفة تماما

تسمرت مكاني وتساءلت بعجز:

ماذا علي أن أفعل؟

استمر صمتي وحنيني لأعرف مابها وكيف لاتتذكر أحدا، سمعت صريرا ما تحت قدميها، ركزت معي أكثر

وكأني بها تعصر ذاكرتها مجددا لتتعرف علي:

إنها فعلاً لا تعرفني؟

ألم تكن نفسها هدى التي لطالما مازحتني وهي تقدم لي قهوتها اللذيذة وصرة الشكولاتة التي تخبئها للمتميزات على حد زعمها؟ هي ذاتها التي تتزاحم الأخريات في غرفتها الصغيرة في أوقات الاستراحات القصيرة ليسمعن آخر دعاباتها وحكايتها اللذيذة ومواقفها مع أطفالها وبنيات زوجها! هدى القوية جدا التي تحيل أوجاعها طرفاً، تضحك الجميع! حين تصف حنين زوجها الذي تحسه لصديقتها المقربة جداً والجميلة جداً حين فقدها يوماً، وما إن دسها في التراب حتى أصرت بنياتها على أن تصبح أماً لهن!

لف شريط أيامي معها سريعاً لأبحث عن بعض ضعفها، لم أجد سوى المرأة القوية المتندرة على كل شيء، فيما يبدو أنها تختبئ خلف كل ذلك، وهي بحاجة لتظهر كما هي! فما إن عرفت أنني كاتبة أصبحت تلاحق أوقاتي الفارغة لتقنعني أن أحكي حكايتها؟ تمنت علي أن أشتري دفتراً بلون وردي لأرسم فيه حكايتها الغريبة كما تقول، لم تكن تود أن أكتبها من خلال الهاتف المحمول ولا حتى الحاسوب تريد أن تقرأ تفاصيلها مكتوبة أمامها كما تمنت منذ أزمان

قالت بصوت مبحوح وقتها:

أرجوك اكتبي حكايتي سترين العجب فيها وأعتقد أن قرائك لن يصدقوا عذاباتها لكن حاولي.

كانت تشعرني في محاولاتها لاستفزازي لأعلق في قصتها بأنها تريد أن تخرج من ذاتها، تتمنى لو ترى نفسها في مرآة أخرى غير مرآتها التي خنقتها طوال سنوات، تريد أن تبوح، أن تحكي، أن تصف أن تبكي بدموع جافة وقد كرهت ملوحتها التي عاصرت سنواتها وكبرت معها، تتمنى أن تقول كل ما اختبأ في جوفها، لتغرف عذابات السنين من داخلها وتريقها على أوراق دفتري الأنيق، تتمنى لو ترتاح حينها، لتنسى، لتمحو مايخرج حقيقة وتقذفه للآخرين، ليعلموا أوجاعها، ويكرهوا أنفسهم وظلمهم لها، تريد حتما من يسمعها ويكتبها، لتصبح بطلة حكاية كالمسلسلات التي تتابعها وتهزأ بالدراما التي يعتقدونها، والدموع التي تسح على ضحاياها، لم يخبروا ما عانته منذ طفولتها! وهم بالكاد نقطة في سطورها.

لا أدري لم أشعر أنني أرثيها وهي حية؟ ولماذا أشعر بالندم لأنني تأخرت في شراء الدفتر الذي أحبت لونه منذ الصغر؟

تمنيت أن أصرخ فيها وأنا أعانقها وأرحب برجوعها وأشرب فنجان قهوتها ببخاره الذي غالبا ما يتصاعد في أرجاء غرفتها الصغيرة.

لا عليك يا هدى سألتهم الشكولاتة التي أتمنع عنها في الغالب، وسأرتشف عدة فناجين من يدك النحيفة المرتجفة أحيانا، لن يزعجني إصرارك حتى لو أوقفني عن العمل ولن أسكت إلحاحك، ورغبتك الشديدة لأكتبك كما ترددين دائما، أنا من سيلاحق أوقاتك وأبحث عن مساحاتك المتاحة ولنبدأ فورا بالكتابة.. فقط تذكريني وقولي أنك عدت لحاضرنا تشتعلين حماسة رغم كل شيء، تمازحين الجميع وتمنعين عن بعضهم مزاجك النشط ونكاتك التي تجعل أجسادنا تتمايل من شدة الضحك..

تمنيت لو أبكي! أبكي عجزي وأنا لا أستطيع أن أعثر على نفسي في ذاكرتها التي بدت مظلمة تماما.. وهي ذاتها تفشل في العثور علينا وحتى أطفالها..

مازلت أنتظر ذاكرتها لتستفيق وتعود تجمعنا فيها من جديد.

أفتح دفترها سميته باسمها وكتبت البسملة في رأس صفحته الأولى أحاول أن أزخرفها ليبدو خطي جميلا وهو ما أفشل فيه في العادة.. تأملت صفحاته البيضاء كانت كثيرة بما يكفي لتتحمل أوجاعها وبؤسها وكأني بها ستداري بعضها أو نصفها على الأرجح فبعض الآلام ينبغى ألا تحكى ولا تنبش من جديد لا بد أن تسقط من الذاكرة لتدفن وتختفي وتنسى يكفيها أنها حاضرة دائما في كل زمن تنخر في صبر الماضي الذي كانته! وتشتعل في الحاضر الذي تحاول أن تكونه مجددا!

ظلت هدى تسكنني بألغاز حياتها ومرضها الذي التقطت بعض تفاصيله من بعض المقربات منها وكن سعيدات لأن نوبات مرضها بدأت تتباعد وهن يربتن على قلقي بأنها ستعود لطبيعتها بعد أيام بإذن الله تعالى.. هو فقدان مؤقت للذاكرة تابعت سارة ودموعها تنثال: عانت هدى كثيرا جدا لكن بحمد الله تعالى تعود لحياتها بقدر ماتستطيع.. وابتسمت قائلة:

في نوبتها السابقة وهي تمشي على الرمال حافية القدمين بناء على نصيحة طبيبها استوقفتها امرأة بسؤال ساذج:

كل هؤلاء أولادك؟

كانت بنات زوجها وأطفالها يتراكضون حولها

تقول هدى: انتفضت كدجاجة هاجمتها حية وجمعت فراخي وأنا أصرخ:

ليتني أتذكرهم!

*المصدر: جريدة الرياض | alriyadh.com
اخبار السعودية على مدار الساعة