الوعي وجدار الثقة
klyoum.com
أخر اخبار السعودية:
رابطة العالم الإسلامي تدين انتهاكات الاحتلال في غزة وسورياد. عبدالرؤوف الخوفي
لم يعد الوعيُ في عوالم ما بعد الحداثة مجرّد انبثاقٍ للعقل من عتمة الجهل. لقد أصبح يقظة على حافةٍ واهنةٍ بين ما نعرفه عن أنفسنا وما نكتمه. إنّه بتعبير رمزي ضوءٌ يتسلّل من شقوق جدارٍ بنيناه حول ذواتنا اتقاءَ هشاشتنا. لكنّ هذا الجدار الذي ظننّاه حصنًا من الشك قد تحوّل مع الوقت إلى جدارٍ يفصلنا عن الآخرين وربما عن أنفسنا. وهنا يتبادر السؤال الفلسفيّ الأعمق:
هل يُمكن للثقة أن تنمو في ظلّ وعيٍ يرى أكثر ممّا تحتمل النفسُ إبصارَه؟
حسنًا.. تُشكّل العلاقة بين الوعي والثقة إحدى الإشكالات المركزية في الفلسفة الحديثة، إذ تُلامس جوهر التجربة الإنسانية في توازنها بين الإدراك والاطمئنان وبين المعرفة والخوف. فكلّما ازداد الإنسان وعيًا بذاته وبالآخر ازداد إدراكه لطبقات التعقيد والغموض في العلاقات البشرية ما يجعل بناء الثقة أكثر صعوبة. إنّ هذه المفارقة بين وعيٍ يَكشفُ وثقةٍ تحجبُ هي ما يُمكن تسميته مجازًا بجدار الثقة.
ومحطُّ الاهتمام هنا أنّ الوعي ليس معرفةً ساكنة، بل سيرورة ديناميكية من الانكشاف المستمر. فالإنسان الواعي وفق المنظور الفينومينولوجي (الظاهراتي) لا يعيش الأشياء كما هي بل كما تُعطى له في الوعي، ومن ثَمّ فإن كلّ وعيٍ يحمل بذرة شك؛ لأنّ المعرفة ذاتها تتوسّطها اللغة والتجربة والمحدودية الإدراكية.
لذا قد لا يبدو الوعي راحةً، فنحن نبحث عن الحقيقة لكنّنا نكون أكثر ارتياحًا مع الوهم، ونريد الثقة لكنّنا نحتمي بالتحفّظ؛ إذ يبدو الوعي على هذا النحو مُرهقًا ومنخلعًا عن الحقيقة.
إنّ الإنسان الواعي يعيش في مساحةٍ بينيّة بين الداخل المليء بالظنون والخارج المشحون بالأحكام. فالوعي إن حُبس في الداخل صار وسواسًا يلتهم الثقة، وإن وُجّه إلى الخارج بلا تبصّر تحوّل إلى شكّ مُفرط. وكلّما اتسعت دائرة الوعي ازداد الشعور بالوحدة. فالذين يرون بوضوح أكثر يُعانون أكثر من ضباب الشك؛ لأنّهم يُدركون كمَّ الأقنعة التي تُحيط بالبشر.
فحين يتضخّم الوعي الفردي تبدأ الثقة في التآكل؛ حيث إنّ المعرفة الزائدة بسلوك الآخرين ونواياهم تجعل العلاقة محكومة بالتأويل الدائم، فتتحوّل من تفاعلٍ إلى مراقبة.
وهنا تبدو الثقة كجدارٍ واهٍ بما يكفي لأنْ ينهار من كلمة أو من نظرة. ومن المفارقة أنّنا لا نستطيع العيش من دونه كما لا نحتمل الاحتماء خلفه طويلاً.
يرى ابن خلدون في تأمّله حول الاجتماع الإنساني أنّ العمران لا يقوم إلا على الثقة المتبادلة، فهي التي تُتيح التعاون بين الناس. لكنّ هذه الثقة تظلّ دومًا مرهونة بالوعي الجمعي؛ إذ كلّما غاب الوعيُ تحوّلت الثقة إلى سذاجة، وكلّما ازداد الوعي تحوّلت الثقة إلى حذر. وكأنّنا محكومون بالتأرجح بين إفراطين.
ومع ذلك فمن المفارقة الوجوديّة أن نثق رغم وعينا، فالوعي يضعنا أحيانًا أمام الهاوية الأخلاقيّة. فقد يبدو من السهل تقبّل فكرة أن نثق ونحن في حالة جهل، أمّا أن نثق بعد أن نعرف وهن الإنسان وتناقضاته فذلك ما يبدو غريبًا. فمنذ أفلاطون كان الوعي مقترنًا بالمعرفة، والمعرفة مقترنة بالقوّة.
لكنّ هذه القوّة لا تُختزل في السيطرة على العالم، بل في السيطرة على الذات، فالوعي يُكسِب الإنسان قدرةً مزدوجة في أن يرى العالم كما هو، وأن يعيد تشكيله من الداخل.
يُدرك الإنسان في لحظةٍ من النضج الوجوديّ أنّ الثقة ليست نقيض الوعي، بل امتدادٌ له على نحوٍ أعمق، فأنْ أعيكَ ومع ذلك أطمئن إليك كأن أرى ضعفك ولا أستثمره، وأن أعرف حدودك ولا أتجاوزك. فالثقة في جوهرها ليست رهانا على صدق الآخرين، بل على صلابة القلب.
وحريٌّ بالوعي أن لا يُفكّك جدار الثقة، بل أن يُعيد تشكيله بذكاء. فالثقة العمياء تخلق خيانة، والثقة الواعية تخلق ولاءً. وحين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من الوعي يُصبح كمن قال عنه ابن عربي: “عينُهُ في العين وقلبُهُ في الغيب».
إذ إنّ هذا الوعي الترميمي -إن صح التعبير- لا يهدّ الجدار، بل هو إدراكٌ بأنّ النقص جزءٌ من الجمال الإنساني.
إنّ الإنسان غير الواعي يعيش استجابةً لا إرادة، فتحكمه ردود الفعل لا المبادئ. أما الإنسان الواعي فيملك المسافة الحرّة التي تمنحه خيارًا قبل الفعل، فيُبصر المآلات قبل أن تُبصره.
ومن هذا المنطلق يُمكن القول إنّ الإنسان الواعي هو الأكثر استعدادًا للعيش، لا لأنّه يملك حلولًا لكلّ شيء، بل لأنّه يدرك أنّ المعرفة لا تعني الخوف بل إدارة الخوف.
إنّ الثقة في جوهرها فعل عقلٍ قبل أن تكون عاطفة قلب. فحين يثق الإنسان فإنه يُصدر حكمًا معرفيًا ضمنيًا يُقدّر به الاحتمالات ويختار منها التفاؤل.
فالعلاقة بين الوعي والثقة ما هي في جوهرها إلا علاقة بين المعرفة والأمان، وحين يبلغ الإنسان تلك المرحلة فإنّه يبلغ ذروة النضج الفلسفي والأخلاقي ليكون واعيًا بما يكفي ليثق، ومتواضعًا بما يكفي ليدرك أنّ الثقة ليست ضمانًا بقدر ما هي اختبار مشروع للإنسان في إنسانيته.