بَلَاغَةُ الإيجَازِ في القَصَصِ القُرْآنِيِّ
klyoum.com
د. فهد إبراهيم البكر
تنتمي القصة إلى فضاء الأدب، وهي أقدم أجناسه وأشكاله؛ ذلك أنها مرتبطة بالحكاية التي هي مظهر من مظاهر القول التي عرفها الإنسان منذ غابر الأزمان، حيث يقصّ الناس أحوالهم، وأخبارهم، ويروونها، ويتناقلونها، ومن هنا كانت مادة (قصة) في المعاجم اللغوية قريبة من هذا المعنى، حيث جاء في معجم الصحاح للجوهري (393هـ): «قصَّ أثره، أي تتبعه. قال الله تعالى: «فارتدا على آثارهما قصصا»، وكذلك اقتصّ أثره، وتقصص أثره، والقصة: الأمر، والحديث، وقد اقتصصت الحديث: رويته على وجهه، وقد قص عليه الخبر قصصا، والاسم أيضاً: القصص بالفتح، وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقصص بكسر القاف: جمع القصة التي تكتب».
وقد عُرِفت القصص منذ القديم، منذ العصر الجاهلي، وكذلك في عصر صدر الإسلام وما بعده، فإلى جانب أيام العرب، وأخبارهم، قصَّ القرآن الكريم علينا من أخبار الأوائل، والأمم السابقة، والحضارات الماضية، فحفلت سورة البقرة، وسورة يوسف، وسورة مريم، وسورة النمل، وسورة الكهف، وغيرها، بقصص هي غاية في الإيجاز والإعجاز، وهنا لا بد أن نشير إلى تنوع القصص القرآني من حيث الحجم الخطابي، فتارة تكون القصة طويلة ومفصّلة، وتارة تجيء قصيرة ومختصرة، فكان النوع الأول دالاً على القصص العام الذي يدرسه النقاد ضمن ما يعرف بالفنّ القصصي، وكان الثاني مشابهاً لما ينعته نقاد السرد اليوم بالقصة القصيرة، أو القصة القصيرة جداً.
ويتأسس القصص القرآني من خلال جملة من العناصر السردية، كالأحداث المهمة، والمؤثرة، والشخصيات التي تصدر عنها تلك الأحداث، إضافة إلى وجود المكان، والزمان، وهما عنصران مهمان في بناء القصة، وتبدو جمالية القصة القصيرة جداً في القرآن الكريم في كونها مشهداً مكثفاً، يستند إلى أركان مهمة، كالحجم الموجز، واللغة القوية، والوصف المكثف، والسمة الحكائية، وفي القرآن الكريم نماذج كثيرة من هذا القصص الموجز، كما في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا»، وقوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»، وقوله تعالى: « وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر»، وغيرها من الآيات ذات الطابع الحكائي الموجز، المكثف الدلالات والغايات.
ولقد أنبأ القصص القرآني القصير ببلاغته وإيجازه، وروعته وإعجازه، عن غايات كثيرة منها: تثبيت قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقلوب أمته، وصحابته، وتقوية ثقة المؤمنين بنصر الله، ودحر الباطل وزمرته، وتصديق الأنبياء السابقين، والاستشهاد بذكرهم، ومعرفة آثارهم، والاتعاظ بقصصهم، وإظهار صدق نبينا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعوته ونبوته، وما يخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون الغابرة، والأجيال السابقة؛ ولهذا فإننا حين نتأمل كثيراً من القصص القرآني الموجز، نجد فيه العظة والاعتبار، والتذكير والإنذار، كما نجد فيه جمال المبنى، وجلال المعنى، وبراعة الوصف، وحسن الرصف، وروعة المشهد، وبراعة الموقف، وترابط الأحداث، وتناسق الشخصيات، وكثافة الزمن المدهش، وجمالية المكان البديع.
ولا غرو فالقرآن كلام الله -تبارك وتعالى- الذي أنزله على رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، أُحكِمتْ ألفاظه، وفُصّلت معانيه، ليس به عوج، ولا ميل، ولا زَيغ، مُعجِـزٌ في نظمـه، وفي تراكيبه، تذكرة لأولي الألباب؛ لذا جاءت القصة القصيرة فيه قوية التأثير، مكتملة البناء، ذات عناصر حكائية شاملة، ومكونات سردية متكاملة.