اخبار السعودية

جريدة الرياض

ثقافة وفن

نشأة دراسات الإقناع

نشأة دراسات الإقناع

klyoum.com

خالد الحلوة

تعد دراسات الإقناع التي قادها كارل هوفلاند في منتصف القرن العشرين من المحطات المركزية في تاريخ بحوث الاتصال والإعلام،

إذ مثلت تحولاً علمياً من الدراسة الانطباعية للدعاية إلى دراسة منهجية قائمة على التجريب والقياس العلمي لتأثير الرسائل الاتصالية في تغيير الاتجاهات والمواقف.

ظهر اهتمام هوفلاند بالإقناع خلال الحرب العالمية الثانية عندما عمل

في (وحدة أبحاث المعلومات الخاصة) التابعة للجيش الأمريكي في

جامعة ييل، والتي كان هدفها الأساسي تقييم فعالية الأفلام الدعائية

التي أعدتها الحكومة لتعبئة الجنود ورفع معنوياتهم.

وقد قاد هوفلاند مجموعة من الباحثين لدراسة مدى تأثير هذه المواد على المعرفة والمواقف والسلوك. وكانت نتائج تلك البحوث بداية لتأسيس اتجاه علمي جديد في دراسة الاتصال يقوم على المنهج التجريبي وتحليل المتغيرات النفسية.

انطلقت بحوث هوفلاند من سؤال جوهري هو: ما العوامل التي تجعل الرسالة الاتصالية مقنعة؟ للإجابة عن هذا السؤال، صاغ هو وفريقه نموذجاً تحليلياً أصبح مرجعاً في علم الاتصال، يقوم على أربعة عناصر رئيسية هي: من يقول؟ وماذا يقول؟ ولمن يقول؟ وبأي وسيلة؟

بعبارات أخرى، فإن دراسة عملية الإقناع تقوم على فهم أربعة أجزاء مهمة في عملية الاتصال، هي: المصدر والرسالة والمتلقي والوسيلة. وأظهرت الدراسات أن عناصر عملية التأثير لا تعمل بشكل متساوٍ، وأن فهم عملية الإقناع يتطلب تحليل كل عنصر على حدة

داخل سياقه النفسي والاجتماعي. وأبرزت هذه الدراسات أن المصدر يحتل موقعاً أساسياً، إذ تؤدي مصداقية المصدر إلى رفع مستوى قبول الرسالة بسبب ثقة المتلقي بشخصية المصدر ومؤهلاته وصدق نواياه. ثم تأتي أهمية محتوى الرسالة

نفسها، سواء من حيث تنظيم الحجج أو عرض الأدلة أو اختيار الاستراتيجية الأنسب للإقناع مثل تقديم الحجج على شكل جانب واحد أو جانبين بحسب طبيعة الجمهور.

أما من ناحية المتلقي نفسه، فقد أوضحت الدراسات أن خصائص المتلقي تلعب دوراً جوهرياً، إذ يتفاوت التأثير بناءً على المستوى الذهني والخبرة السابقة والاستعداد النفسي للتصديق التي تحدد مدى احتمال قبول الشخص للمضمون أو مقاومته. وأخيراً، كشفت الدراسات أن خصائص الوسيلة المستخدمة في نقل الرسالة تؤثر في مستوى الاستيعاب والانتباه، فاختلاف الوسيلة بين السمعية والبصرية والمقروءة يغيّر طريقة معالجة المعلومات، مما يؤدي إلى فروق واضحة في قوة التأثير ودوام أثره.

كما تطرقت بحوث هوفلاند إلى تأثير مرور الزمن، فأوضح أن

الإقناع لا يحدث دائماً فور تلقي الرسالة، بل قد يظهر أثره لاحقاً فيما يعرف بـ (التأثير النائم) Sleeper Effect، حيث تضعف الذاكرة فيما يتعلق بالمصدر، لكن يبقى محتوى الرسالة مؤثراً بمرور الوقت. فقد لاحظ هوفلاند أن المتلقي يميل في البداية إلى رفض الرسالة أو التقليل من أهميتها بسبب حكمه السلبي على المصدر، لكن هذا الأثر السلبي يتراجع تدريجياً بينما يبقى مضمون الرسالة في الذاكرة لمدة أطول. مع مرور الزمن ينفصل المحتوى عن تقييم المصدر في الذهن، فتضعف علاقة الرسالة بالمصدر غير الموثوق، ويعاد تقييم المضمون نفسه بغض النظر عن المصدر، مما يؤدي إلى ارتفاع تدريجي في قوة التأثير. هذا الأثر يكشف أن عملية الإقناع ليست فورية، بل ترتبط بآليات الذاكرة والنسيان وتفاعل الفرد مع المعلومات عبر الزمن. ختاماً، أثرت دراسات هوفلاند في معظم بحوث الاتصال اللاحقة، إذ مهدت الطريق لظهور نظريات أكثر تعقيداً مثل نظرية المعالجة المعرفية ونظرية التوقعات ونماذج التغيير السلوكي. كما أسهمت في تطبيقات واسعة في مجالات الإعلان، والعلاقات العامة، والتسويق، والتعليم، والسياسة، وغيرها.

*المصدر: جريدة الرياض | alriyadh.com
اخبار السعودية على مدار الساعة