في مفهوم الفراغ
klyoum.com
أخر اخبار السعودية:
نوكيا تضخ 4 مليارات دولار لتطوير الذكاء الاصطناعي في أمريكاعوضة بن علي الدوسي
حين نبحث في آليات نظامنا اللغوي والثقافي والمعرفي السائدة في المجتمع، نكتشف أن هناك مفاهيم مختلفة ومتعددة تستحق أن تطرح للنقاش، ومن منطلق أن الثراء المعرفي لا يتعدد إلا بآراء وأفكار الآخرين، كان لابد أن انطلق من مُثاقفة حوارية دارت مع بعض الأصدقاء في البرنامج الاجتماعي الشهير (واتس اب) حول مفهوم الفراغ، وقد وجدت انه من الضرورة بمكان أن نسطر حول هذا العنوان ما يمكن أن نلهم به الآخرين ببعض الرؤى واللطائف، فاللغة على سبيل المثال لا تخضع لمعناها القاموسي فحسب، بل تخضع لاستخدامات الناس في نشاطها اليومي، واستتباعا لذلك يظل النشاط مستمرا لإنتاج معرفة جديدة من خلال الممارسة اليومية للكلمة الواحدة، لان لفظ الكلام يحتوي معاني كثيرة وتأتي الدلالة حسب السياق، وفي مقال اليوم سوف نداول مفردة الفراغ لنصل إلى نقطة الالتقاء معك عزيزي القارئ، إننا حين نقف بوعي حول مفهوم الفراغ، في مداولة واسعة، فإن ذلك يمنحنا حالة من الكسب المعرفي حول تباينات دلالة الكلمة، لنكتشف أنها ليس كما نعرفها تنفرد بمعنىً واحد فقط، فعندما نقف مفهومياً أمام كلمة الفراغ نجد أنها تضيف قيمة معرفية وفنية وتتعدد في اتجاه أفقي شامل، وكذا تضيف علاقات متباينة للفراغ ذاته، وهكذا هي نوافذ المعرفة تحمل معها وعيا آخر يتسع بسعة رؤيتنا وتناولنا للأشياء، لاسيما عندما نتأمل بفطنة تذاهنية حول معنى الفراغ فإننا نغوص بروح المكتشف للدلالات المعرفية التي توصلنا إلى مساحات أعمق في أفق المعنى، وبهذا نتعدى مفهوم المعنى القاموسي الضيق إلى مشاركة فلسفية واسعة يتسع معها وعينا ومداركنا، وتتصاعد الصور الذهنية وفقا لما نداوله من حديث واسع لمفردة الفراغ، ولاشك إن الفراغ أصل أصيل في مسارات الحياة ولا يمكن أن نحقق أي كيانات أخرى، وكذا أي منتج دون وجود الفراغ، فحضور الفراغ ضرورة وملفت عن غيره، لنقيم معه علاقة جديدة، حين نبني أو نشيد أو نزرع كل ذلك تيم في مساحة الفراغ، وحين نتأمل حال الوجود بنظرة فلسفية نعي حقيقة هذا الفراغ، وندرك أن ليس هناك فراغا بالمعنى المطلق، وذلك حين ننظر في الاتجاه الفلسفي الأعمق، ومع نظرتنا الثاقبة وتطلعاتنا الفطنة فإن هناك ما يشغل هذا الفراغ أو ذاك من غازات وذرات وغيرها، وما نراه فراغا يمتلئ بغاز الأوكسجين، وهنا يتبادر إلى وعينا أن ننظر إلى الفراغ من زوايا متعددة، ففي بعده المعنوي وتحديدا الاتجاه الفقهي يكون نعمــة ويأتي الحــث على اغتنــام الفرصــة (نعمتان مغبون فيها كثير من الناس الصحة والفراغ) باعتبار أن الفراغ نعمة يفترض استغلاله، فيما تتعالى الأصوات والتحذيرات حين يستغل الفراغ ويُشغل بالباطل، ومن هنا يتجلى لنا بعد الفراغ على مستويين حالات التفريط الماضية بحسوفتها واغتنام الفرص اللاحقة بمكاسبها نحو حالة من الانتباه عن الموضوع لممارسة الكيفية المناسبة في طرق استغلال الفراغ، أما إذا كان في الجوانب الفنية فان الفراغ هو الذي يمنحنا المساحة لشغل الأشكال الهندسية والفنية، وهنا أجد حضورا للذهن يمنحنا انتقال سلس للبعد الحسي للفراغ ويقودنا إلى الجوانب الفنية ليتشكل جانبا من الإبداع وأبعاد الجمال، والحضارة العربية والإسلامية قدمت لنا في هذا الجانب ما يغني من النقوش والزخارف والنمنمات والرقش التي لا تزال ترتصف على جنبات قصر الحمراء وفي ساحاته الفسيحة بالأندلس الأموية حتى أنه خرج عن تلك المشغولات والمنحوتات الفنية معارف أدبية مختلفة وقد سطر التراث العربي الكثير في هذا الاتجاه، بل أننا نجد في الملمح الواحد ما يستعرض فيه الشاعر لجوانب فنية وأخرى عاطفية يقول الشاعر حين شاهد الأسود على محيط النافورة في بهو السباع في ساحة القصر والمياه تتدفق من أفواهها وهو يلتقط مشهدا عاطفيا يتداعى له الحزن ويتوارى به عن الناس حين غص به الدمع.
كمثل محب فاض بالدمع جفنه ........... وغص بذاك الدمع إذ خاف واشياً
في المقابل يرصد البعد الفني في أبهى صوره وجلال ملامحه وذلك حين يمتلئ الفراغ ويتغنى به ليشكل لوحة فنية تروق للآخرين وتستهوي مشاعرهم وتفيض على ملامحهم بالدهشة والإمتاع والسرور، ويتحول عداء الضواري إلى حياء لتستكين رابضة وكأنها تقدم بكل حيا ترحيبا بالضيوف حين قال الشاعر:
فيا من رأى الآساد وهي روابض ............ عداها الحيا عن أن تكون عواديا
وهكذا يظل الفراغ ملهما ومكملا لعوالم أخرى بل عنصرا أساسياً في حياتنا وذلك حين نعيش بعده الحسي والمعنوي وندرك حقيقة امتلائه فيما هو خارج عن قدرة أبصارنا... وإلى لقاء.