اخبار السعودية

جريدة الرياض

سياسة

المتقابلات المتجادلة

المتقابلات المتجادلة

klyoum.com

د. مشاري النعيم

كنت أعتقد أن المتقابلات المتجادلة تنحصر في الظواهر الكبرى، لكن علمتني "الظاهرة العمرانية" أنها مكوّنة من سلسلة من المتقابلات الجدلية التي شكلت تقاليدها عبر الزمن وخلقت بنيتها الجوهرية، فالداخل يقابله الخارج وبينهما عتبات لا حصر لها وحولهما تقاليد وقيم ونظم تتنوع من مجتمع لآخر، والأسفل يواجه الأعلى، بينما المغلق قد يجاور المفتوح..

لن أبدأ مباشرة بتفسير عنوان المقال الذي قد يراه البعض غريبا ودون معنى، لكنه عنوان مرتبط بظواهر أساسية نعيشها في الحياة كل لحظة وتُمثّل قوانين أساسية يصعب علينا تغييرها. منذ فترة طويلة وأنا "مغرم" بالمدرسة البنيوية وأرى فيها نظاما فكريا رصينا ومتكاملا، وعندما قرأت كتاب "الأنثروبولوجيا البنيوية" لعالم الاجتماع الفرنسي "كلود ليفي شتراوس" شدني حديثه عن "المتقابلات" Oppositions فهو يرى أن الظواهر مكونة من متقابلات مثل الليل والنهار والثابت والمُتحوّل، ويؤكد أن ما يصنع الظاهرة هو الجدل القائم بين تلك المتقابلات، فهي "متقابلات متجادلة" والمنطقة الرمادية "البرزخ" بين طرفي التقابل هي التي تولّد الأسئلة الوجودية، فالبشر عادة يبحثون عن غير الواضح وقليلا ما تثير فضولهم المناطق الواضحة، حتى في العمارة يمثل "الغموض" قمة الدراما المعمارية كما يبين ذلك المعماري الأميركي "روبرت فنتوري" في كتابه "التعقيد والتناقض في العمارة". وبما أن عبقرية الإنسان تكمن في طرح الأسئلة، فقد شدني ما طرحه "شتراوس" الذي يرى أن بنية الظواهر تكمن في البحث عن المنطقة الغامضة بين المتقابلين، فهناك يتصاعد الجدل وهناك تنمو الأفكار وتتطور النظريات.

وجدت أن طبائع الأشياء تتبع هذا النظام البنيوي القائم على جدل المتقابلات، فالخير يقابله الشر وبينهما مساحة واسعة من الجدل وهذه المساحة هي التي تصنع القيم وتشكّل القوانين، والحق يواجه الباطل والدراما البشرية قامت على هذا الصراع بين ظواهر هي جزء جوهري من طبائع الأشياء التي خلقها الله، لكن كونها ظواهر مكوّنة من متقابلات جدلية لذلك نجد أن التقاليد التي طورتها المجتمعات الإنسانية تحاول أن تتجاوب معها، فكل مساحة غامضة هي مساحة متاحة للجدل، للتوافق والاختلاف، وعادة ما يسعى البشر إلى خلق نظمهم الخاصة، وقد كانت تقاليد متفقا عليها في السابق وأصبحت قوانين مكتوبة في العصر الحديث وربما قبل ذلك، بل حتى الشرائع نزلت للإجابة على هذه المساحات الغامضة التي هي جزء أساس من مبدأ الخلق. دفعني هذا إلى التفكير في "بنية التقاليد" وقد كتبت كثيرا عن دينامية التقاليد واختراعها وكنت قد اطلعت على ما كتبه الفيلسوف الألماني "كارل بوبر" حول التقاليد وأنها وسيلة لتنظيم الحياة وتحديد الحدود بين البشر، لكنها في الأساس هي نتيجة لوجود مساحات غامضة لم تستطع المجتمعات البشرية الإجابة عليها إلا من خلال تطوير تقاليدها أو نظمها الخاصة التي تحاول أن تنير تلك المساحات المعتمة.

ومع ذلك كنت أعتقد أن المتقابلات المتجادلة تنحصر في الظواهر الكبرى، لكن علمتني "الظاهرة العمرانية" أنها مكوّنة من سلسلة من المتقابلات الجدلية التي شكلت تقاليدها عبر الزمن وخلقت بنيتها الجوهرية، فالداخل يقابله الخارج وبينهما عتبات لا حصر لها وحولهما تقاليد وقيم ونظم تتنوع من مجتمع لآخر، والأسفل يواجه الأعلى، بينما المغلق قد يجاور المفتوح. سلسلة جدلية من الظواهر المادية صنعت كل التفاصيل البصرية التي يمكن أن نتصورها، لكنها لم تتوقف عند هذا الحد بل أوجدت القيم والمعاني الكامنة التي تنظمها فخلقت العام والخاص وكونت المباح والممنوع ووضحت ما هو "حرام" وما هو "جائز" وخلقت تقاليد الكرم كما شددت على الخصوصية. المتقابلات المادية في العمارة لم تكن مجرد نظم تشكيلية بل هي منبع لحلول جدلية كوّنت تقاليد خاصة تحمل مخزونا كامنا غالبا ما تصنعه مجموعات بشرية محددة لمواجهة المساحات المعتمة التي تخلقها المتقابلات المتجادلة. يبدو لي أن التفكير البنيوي حاول أن يفهم الظواهر التي تحيط بالإنسان ويربطها في سلسلة هرمية من المتقابلات ويفترض من البشر أن يبحثوا عن الحلول التي تنير المساحة الجدلية غير الواضحة بين طرفي كل ظاهرة. ولعلها اختصرت الحضارة الإنسانية في كونها محاولة دؤوبة للبحث عن إجابات للأسئلة التي ولّدتها الظواهر المتقابلة. فالعتمة يقابلها النور والإنسان يكره العتمة فصار يبحث عن النور حتى استطاع أن ينير العتمة.

لكن "التفكيكية" التي أتى بها الفيلسوف الفرنسي "جاك داريدا" كانت تريد كسر البُنى المتقابلة وعملت على تفكيك الجدل بينها، كانت تريد أن تقول إن الظاهرة البشرية ليست محكومة بالنظم التي تولّدها البنى المتقابلة وما تُحدثه من جدل يتطلب إجابات، فالبشرية لم تصل إلى إجابات نهائية، لذلك كسر النظام أو ألا نظام يجب أن يكون هو النظام. هذه المدرسة سرعان ما تهاوت كما تهاوت "ما بعد الحداثة" قبلها، والحقيقة أنني لم أستوعب فكرة ألا نظام، فأنا أرى "التفكيك" كمنهج لفهم الظاهرة وليس لكسر النظم التي تقوم عليها الظاهرة. لذلك اتبع ما توحي به الكلمة الإنجليزية Dismantling التي تعني "تفكيك" الظواهر ويقابلها Mantling أي "تركيبها" ولا استخدم كلمة Deconstruction التي تعني "تفكيك" كونها حسب "داريدا" تشير إلى ألا نظام. في اعتقادي أن الفلسفة البنيوية تقوم على أساس منطقي يحاول أن يرصد علاقة الإنسان بكل ما يحيط به، وهي في نفس الوقت تحمل التعقيد الكافي للولوج في مساحة الغموض التي تثير الفضول المعرفي.

لابد أن أشير أن مصطلح "المتقابلات المتجادلة" تطوّر من خلال الحوار مع طلاب مادة "قضايا معاصرة في العمارة" في قسم العمارة بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، وكان حوارا حول "البنية الجوهرية" للأشكال المقاومة التي تصنع الثقافة ويفترض من الطلاب أن يبنوا الظاهرة التي سيناظرون بها زملاءهم في نهاية الفصل. لكن المصطلح له جذوره البنيوية العميقة ويمثل الظاهرة التي يصطدم بها البشر في كل لحظة، لذلك كان لتلك المتقابلات دور جوهري بالتأكيد في خلق كل الأشكال والأفكار المقاومة التي صنعت الحضارات الإنسانية.

*المصدر: جريدة الرياض | alriyadh.com
اخبار السعودية على مدار الساعة