تقرير الخنساء بنت الخنساء.. إيناس فرحات تفقد سبعة من أبنائها في قصف همجي
klyoum.com
خاص _ شهاب
في ساعات فجر يوم الأربعاء 18 يونيو 2025، بينما كانت مدينة غزة تترقّب بصيص هدنة هشة وسط حرب لم تهدأ منذ السابع من أكتوبر 2023، اخترق صاروخٌ "إسرائيلي" عنيف صمت حي الزيتون جنوبي المدينة، ليحوّل منزل عائلة فلسطينية إلى ركام، وليعلن عن جريمة جديدة تهزّ الضمير الإنساني الصامت على مجازر لم تتوقف بحق الغزيين، استشهاد سبعة من أبناء المواطنة الغزية إيناس فرحات في ضربة واحدة، كانت كفيلة بتحويل أحلام أسرة كاملة إلى رماد.
البيت الذي احتضن ضحكات الأطفال وقلق الأم الذي لم يعد موجودًا، تحول إلى كومة حجارة، ودفنت تحته حياة وأمل وأمنية صغيرة في البقاء، لم يكن هناك أي تحذير، ولا إنذار، فقط دويّ انفجار هائل، وغبار كثيف، وصراخ من تبقّى بعد غارة إسرائيلية غادرة.
فور وصول الشهداء إلى مستشفى الأهلي العربي "المعمداني"، أُطلق على الأم المكلومة لقب "الخنساء" – اللقب الذي يخلّده الفلسطينيون لمن تقدم أكثر من شهيد من أبنائها في سبيل وطنٍ تحاصره النار، لم يكن اللقب غريبًا عن العائلة، فقد سبق أن نالت والدتها، أم نضال فرحات، اللقب ذاته بعد استشهاد أربعة من أبنائها في جولات سابقة من العدوان على قطاع غزة.
إيناس فرحات، الجريحة بجراح الجسد والروح، نُقلت إلى المستشفى في حالة حرجة، إثر إصابات بالغة في الرأس والجمجمة والوجه، إضافة إلى كسور في القدمين حتى اللحظة، لا تعلم حجم الفاجعة التي حلّت بها، فبناء على توصية الأطباء، تمنع عائلتها عن إخبارها بالحقيقة الكاملة، خشية أن تنهار حالتها الصحية المتدهورة أصلاً، ما تعرفه فقط هو استشهاد ابنها البكر، محمد، والذي ظلّت تنادي عليه فور دخولها المستشفى، غير مدركة أن ستة من أشقائه قد سبقوه إلى الشهادة.
"المال معوّض، المهم أن أولادي بخير"، بهذه الكلمات استقبلت إيناس فرحات مشهد الدمار حين عادت إلى منزلها بعد رحلة نزوح صعبة جنوب قطاع غزة، لم تكن تدري أن اللحظة التالية ستسلبها كل من أرادت حمايتهم.
شقيقتها، إنعام فرحات (43 عامًا)، تروي تفاصيل الجريمة التي حدثت بحق شقيقتها إيناس وأبنائها، وقد نال الحزن ما نال منها لتقول لوكالة "شهاب" للأنباء: "اضطرّت شقيقتي للنزوح مع عائلتها إلى دير البلح بداية الحرب، وعادت إلى بيتها بعد إعلان وقف إطلاق النار في هدنة الـ"60" رغم ألمها لرؤية المنزل مدمرًا، تمسكت بالأمل، وقالت لي بالحرف: الحمد لله، البيت ما بهم، أولادي سالمين".
لكن هذا الأمل لم يعش طويلًا، في الساعة الثانية فجرًا من يوم الأربعاء، استهدفت الطائرات الحربية "الإسرائيلية" منزل العائلة دون سابق إنذار، تقول إنعام: "تلقّينا اتصالًا هاتفيًا يُخبرنا أن البيت قُصف على من فيه، فخرجنا فورًا إلى المستشفى لنُفاجأ بفقدان معظم أفراد الأسرة، حتى بعض النازحين القريبين من المكان استُشهدوا بسبب شدة القصف".
وتوصف إنعام المشهد داخل المستشفى بالصادم، شقيقتها إيناس غارقة في دمها، وجهها محطم، جسدها ممزق، لكنها حيّة، سبعة من أبنائها ارتقوا شهداء، محمد (23 عامًا)، الطالب المتفوق، وبيسان (20 عامًا)، التي كانت تدرس البرمجيات، وأسيل (17 عامًا)، وسما، والتوأمان زيد وسعد (10 أعوام)، والصغيرة لما (6 أعوام). وحده أحمد (21 عامًا) نجا، لأنه كان خارج المنزل لحظة القصف.
وتضيف إنعام: "حين رأيناها للمرة الأولى، شعرنا أنها لن تنجو، كانت إصاباتها مروعة، لكن الطاقم الطبي تدخّل سريعًا، وبدأت حالتها تستقر غير أنها لا تكف عن السؤال عن أبنائها، ونحن نُخبرها فقط أنهم مصابون، حفاظًا على سلامتها النفسية والجسدية".
وفي الحديث عن الوضع الصحي لشقيقتها إيناس تقول إنعام: "الأطباء حذرونا من أن البكاء المستمر قد يفاقم إصابتها في العيون، وفي كل لحظة، ينتاب شقيقتي إحساس داخلي بأن كارثة ما قد حلّت، وأن أبناءها ليسوا بخير، رغم محاولاتنا للتخفيف عنها"
وفي غصة كبيرة تعتصر قلب إنعام توضح خلال حديثها لـ "شهاب" قائلة: "تمنت لو أن المصيبة اقتصرت على خسارة البيت، دون أن تفقد إيناس أحدًا من أبنائها".
وعند سؤالها حول لقب "الخنساء" لإيناس قالت "هذا اللقب أصبح لشقيقتي إيناس بعد والدتي، أمي قدمت أبناءها شهداء، وها هي أختي تقدم أبنائها السبعة على نفس الطريق".
وتواصل حديثها "المصاب صعب وجلل، لكن هذه الطريق تربينا عليها منذ صغرنا، فقد عايشنا حياة والدتنا إم نضال فرحات وهي تودع إخوتي الشهداء وتصبر وتحتسب، واليوم شقيقتي إنسان على نفس الطريق، نسأل الله أن يصبرها ويصبرنا".
هذه ليست مجرد قصة أم فلسطينية، بل شهادة حيّة على حجم الألم في غزة، حيث الحرب لا تكتفي بهدم البيوت، بل تمزق القلوب وتخطف الأحبة، تاركة خلفها وجعًا لا يندمل، وأمًا تنزف كل يوم، وهي لا تعلم أن فلذات كبدها أصبحوا تحت التراب، لتصبح الأم إيناس فرحات الخنساء بنت الخنساء.