اخبار فلسطين

شبكة قدس الإخبارية

سياسة

هندسة المجاعة: كيف تشكل خطة واشنطن لتوزيع المساعدات غطاءً لإدامة الحرب؟

هندسة المجاعة: كيف تشكل خطة واشنطن لتوزيع المساعدات غطاءً لإدامة الحرب؟

klyoum.com

غزة - خاص قدس الإخبارية: أطلقت الإدارة الأمريكية حراكًا نشطًا ومتعدد المستويات لتمرير خطتها الجديدة بشأن توزيع المساعدات في قطاع غزة، بوصفها -وفق الخطاب الرسمي- المسار الأنجع لوقف التجويع وضمان إيصال الغذاء إلى السكان المنكوبين.

لكن هذه الخطة، التي قوبلت باستياء واضح من مؤسسات الإغاثة الدولية ورفض تام من المنظمات الأهلية الفلسطينية، تأتي في سياق إعادة إنتاج الإبادة بشعارات إنسانية، وتمنح الاحتلال غطاءً دوليًّا جديدًا لاستكمال عدوانه، الهادف إلى إعادة احتلال قطاع غزة وتدمير بناه التحتية، ودفع سكانه نحو الهجرة القسرية.

في هذا الإطار، تبدو واشنطن قد قررت تولِّي المهمةَ التي فشل الاحتلال في إنجازها طوال شهور الحرب الساعية إلى هندسة الوعي والمجتمع في قطاع غزة عبر توظيف سلاح التجويع والمساعدات بوصفه أداةً استراتيجيةً لاستكمال أهداف الحرب، بعد أن اصطدمت القوة العسكرية بجدار الصمود والتماسك الشعبي الفلسطيني.

الخطة الأمريكية الجديدة: توزيع المساعدات كمدخل للضبط والتحكم

تكشف الخطة الأمريكية-الإسرائيلية الجديدة، التي عرضها السفير الأمريكي لدى دولة الاحتلال مايك هاكابي، عن توجه استراتيجي لإعادة هيكلة آلية توزيع المساعدات في قطاع غزة، بعيدًا عن الإطار الأممي والمجتمعي التقليدي.

وحسبما جاء في تفاصيل الخطة، تهدف الآلية المقترحة مبدئيًّا إلى إيصال الغذاء إلى نحو 60% فقط من سكان قطاع غزة، من خلال مؤسسة خاصة أُنشئت حديثًا تحت اسم "مؤسسة غزة الإنسانية"، وتتولى إدارتها الولايات المتحدة مباشرة.

ووفق تصريحات هاكابي في مؤتمر صحفي عقد في السفارة الأمريكية في القدس، ستعمل المؤسسة على إقامة مواقع توزيع مؤمَّنة من قبل متعاقدين عسكريين أمريكيين من القطاع الخاص، على أن يتولى جيش الاحتلال توفير الحماية العسكرية في المناطق المحيطة بهذه المواقع. وستقدم هذه المواقع حصصًا غذائية معبَّأة سلفًا، إلى جانب مستلزمات النظافة وبعض المواد الطبية، مستهدِفةً قرابة 1.2 مليون فلسطيني فقط.

تقوم الخطة، حسب هاكابي، على "منع حركة "حماس" من الحصول على المساعدات"، ما يكشف عن الطابع السياسي-الأمني الذي تتخذه الآلية الجديدة، في تقاطع واضح بين العمل الإنساني والمشروع العسكري-السياسي الذي تُديره واشنطن و"تل أبيب" معًا.

وقد أثارت الخطة ردود فعل رافضة من مؤسسات إغاثة دولية ومحلية، وعلى رأسها وكالات الأمم المتحدة، التي عدَّت أن هذه الآلية تفتقر إلى الجدوى وتتنافى مع المبادئ الإنسانية، بل وقد تُسهم في تعزيز التهجير القسري بدلًا من تقديم حلول حقيقية للكارثة الإنسانية في غزة.

وفي هذا السياق، نشر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيةOCHA  وثيقة، نقلتها شبكة CNN، أكد فيها أن "الآلية المقترحة لا تتوافق مع المعايير الإنسانية، وتشكل خطرًا أمنيًّا كبيرًا، فضلًا عن أنها تُخلي الاحتلال من التزاماته القانونية تجاه المدنيين بموجب القانون الدولي".

وفي مواجهة هذه الآلية، دعت وكالات الأمم المتحدة سلطاتِ الاحتلالِ إلى رفع الحصار المفروض منذ أكثر من 10 أسابيع، والسماح بتدفق المساعدات بحرية، وهو مطلب قوبل بالرفض "الإسرائيلي" الصريح.

إعادة قولبة لخطط إسرائيلية سابقة

عند التمعن في تفاصيل الخطة الأمريكية الجديدة بشأن توزيع المساعدات في قطاع غزة، يتضح أنها لا تقدِّم أي جديد يُذكَر عن الخطط التي سبق أن طرحتها حكومة الاحتلال في الشهور الماضية من حرب الإبادة المستمرة.

فالحديث الإسرائيلي المتكرر عن توزيع المساعدات، وتولِّي المسؤولية المباشرة في إيصالها إلى سكان القطاع، يستند أساسًا إلى مهمة استعمارية أوسع تسعى منذ أكثر من 19 شهرًا إلى تفكيك البنية الوطنية والإدارية والاجتماعية القائمة في غزة، لكنها فشلت مرارًا في تحقيق أي اختراق جوهري فيها.

لا تقتصر هذه المهمة على محاولة إنهاء حكم حركة "حماس" أو تدمير القدرات الحكومية، بل تتجاوز ذلك إلى الطموح بإعادة صياغة المجتمع الفلسطيني في غزة من الداخل عبر تفكيك منظومة التأثير الاجتماعي، وتحطيم شبكات العمل الأهلي، وإعادة تشكيل العلاقات الداخلية وفق نمط خاضع تمامًا لأجندة الاحتلال.

في هذا السياق، تُمثِّل الخطة الأمريكية الحالية غلافًا دوليًّا لمشروع "إسرائيلي" قديم الطرح، كان محل نقاش لأسابيع طويلة داخل أروقة "الكابينت" الإسرائيلي. 

وقد اشتد الخلاف بشأنه بين وزراء الصهيونية الدينية، الذين طالبوا بأن يتولى جيش الاحتلال الإسرائيلي بنفسه مهمة توزيع المساعدات، وبين قيادة الجيش التي تمسكت برفض هذا الخيار، مفضِّلةً أن تُوكل المهمة إلى شركات أمريكية خاصة، تُعَدُّ أقل تكلفة ومخاطَرة على جنود الاحتلال.

لذلك جاءت الصيغة الأمريكية الأخيرة كحل وسطي يُرضي الطرفين، إذ يؤمِّن جيش الاحتلال محيطَ مواقع التوزيع، بينما تتولى شركات أمنية أمريكية (من المرتزقة والمتعاقدين) التعامل المباشر مع السكان، ضمن هيكل مؤسسي شكلي تتصدره "مؤسسة غزة الإنسانية". هذه الصيغة تُحقق للاحتلال غايته الأمنية دون الانخراط المباشر، وتمنح الولايات المتحدة فرصة تنفيذ مشروعها الخاص تحت ستار العمل الإنساني.

وعلى هذا النحو، يمكن عَدُّ الخطة الحالية نسخة محدَّثة مما عُرف سابقًا بـ"خطة الفقاعات الإنسانية" التي كان قد طرحها وزير الحرب الإسرائيلي السابق يوآف غالانت. هدفت تلك الخطة إلى إقامة "مناطق مُطهَّرة" داخل غزة، تُدار من خلال مركبات عشائرية مختارة، مع إشراف أمني لشركات أمريكية خاصة، تضبط الدخول والخروج، وتتحكم في تدفق المساعدات.

لكن كما فشلت خطة "الفقاعات الإنسانية" في شق طريقها إلى التطبيق، فشلت قبلها أيضًا جميع المحاولات الأخرى الرامية إلى إعادة تشكيل البيئة الاجتماعية في غزة، من التواصل مع العشائر، إلى استخدام منظمات دولية كأذرع ناعمة، ومن فتح قنوات مع تجار ورجال أعمال، إلى تغذية الفوضى عبر عصابات الإجرام والبلطجة.

وقد باءت كل تلك المحاولات بالفشل بفعل تماسك المجتمع الغزي، ووعي أهله، والتفافهم حول مقاومتهم بوصفها الخيار الأخير لحماية كرامتهم ووجودهم.

اختراق الحاجز النفسي: الحرب على الوعي قبل الجغرافيا

يرى الاحتلال الإسرائيلي أن ما يُعطِّل تنفيذَ خططه لإعادة صياغة الواقع في قطاع غزة، ليس المقاومة المسلحة أو الرفض السياسي فقط، بل "الحاجز النفسي" المتجذر لدى السكان، والذي يجعلهم ما يزالون يرون في الجهات الحكومية والمؤسسات الوطنية القائمة مظلة شرعية تمتلك زمام الأمور.

هذا الإدراك الشعبي، على الرغم من التدمير الواسع، يُمثِّل في نظر الاحتلال العقبة الكبرى أمام تمرير مخططاته، ما يدفعه إلى استهداف المنظومة النفسية قبل الجغرافية، ومحاولة تهشيمها تدريجيًّا.

ومن هذه القاعدة، يستثمر الاحتلال في بناء مشاهد متعمَّدة تُظهِر أن سلطات الحكم في غزة قد فقدت السيطرة، وأن "منسق الاحتلال" هو من يملك مفاتيح التحرك. 

وقد ظهرت تجليات ذلك في تمرير صفقات تجارية عبر المعابر المفتوحة دون إشراك الجهات المحلية، وفي تنسيق منظمة الصحة العالمية لخروج بعض المرضى بشكل مباشر مع الاحتلال، بعيدًا عن التنسيق الرسمي الفلسطيني.

كما يسعى الاحتلال إلى تسويق أدوات تواصل مباشر بين الأهالي وضباط مخابراته أو مكتب المنسق، في محاولة لكسر الحواجز النفسية وتطبيع العلاقة مع أدوات السيطرة العسكرية.

يرى الاحتلال أن هذه النماذج الصغيرة، حين تتراكم، تُشكِّل لوحة فسيفسائية تُمهِّد لخلخلة البنية الوطنية، وتُشجِّع السكانَ على الانقلاب التدريجي على قواهم السياسية، ومؤسساتهم الأهلية، وحتى البُنى الفصائلية التي حافظت على تماسك المجتمع في ظل الحرب.

ولتعزيز هذا التوجه، لم يكتفِ الاحتلال بالسياسات الناعمة، بل ضاعَفَ منسوبَ الحرب النفسية والإعلامية، عبر تصعيد آلة الحرب والقتل والإبادة، بالتزامن مع حملات تحريض ممنهجة تقودها أبواق مدروسة ضمن منظومة "الهسبارا"، تسعى إلى توجيه الغضب الشعبي نحو الداخل، لا نحو الاحتلال، وتُحمِّل فصائلَ المقاومة مسؤولية الحصار والجوع والدمار.

وفي المرحلة الأحدث من هذه الاستراتيجية، عاد الاحتلال إلى توظيف التجويع كسلاح مركزي، فأغلَق كل منافذ الحياة، وضيَّق الحصار إلى أقصى حد، وأوقَف تدفق الغذاء والدواء، ثم عمِد إلى تفريغ المخازن الإغاثية وتعطيل شبكات التكافل المجتمعي، في محاولة لدفع الناس إلى الزاوية الأخيرة، إما القبول بخيارات الاحتلال، وإما الهلاك تحت أنقاض القصف والجوع.

الهندسة القسرية للمجتمع: من القصف إلى التجويع

وفي الإطار ذاته، تسعى الولايات المتحدة، اليوم، إلى استكمال ما عجزت عنه آلة الاحتلال الإسرائيلي طوال شهور الحرب، عبر استخدام التجويع أداةً لإعادة هندسة المجتمع في قطاع غزة، وصياغة وعيه الجمعي ضمن معادلة قسرية: الغذاء مقابل الالتزام بالمعايير الأمريكية-"الإسرائيلية".

فبعد أن أخفقت القوة العسكرية في كسر إرادة المجتمع الفلسطيني، تتجه المقاربة الأمريكية إلى توظيف المساعدات الإنسانية كأداة سياسية، لا بغرض الإغاثة، بل بوصفها وسيلة لإعادة تشكيل البيئة الاجتماعية في غزة على أسس الطاعة والانضباط، عبر التحكم الكامل باحتياجات السكان الأساسية من غذاء ودواء وماء.

يجد هذا النمط من السيطرة تفسيره النظري في "نظرية الضبط الحيوي" للفيلسوف ميشيل فوكو، التي توضح كيف تتحول السلطة الحديثة من القتل المباشر إلى إدارة الحياة نفسها: من يُسمَح له بالأكل، ومن يُترَك للجوع، ومن تُفتَح له بوابات العلاج، ومن تُغلق في وجهه تلك البوابات. وبهذا المعنى يُعاد تعريف الإنسان الفلسطيني بوصفه كائنًا بيولوجيًّا خاضعًا للتنظيم والإدارة، ويُعاد تشكيل المجتمع كمجال للتطويع لا للمقاومة.

في هذا السياق، تُصبح المساعدات أداةً للفرز السياسي، إذ تُمنحَ لمن يقبل شروط النجاة، وتُمنَع عمن يتمسك بخيار المقاومة. وتستهدِف هذه المقاربةُ إنتاج مجتمع بلا ذاكرة نضالية، بلا بنى وطنية، ولا شبكات اجتماعية مستقلة، بل مجتمع جديد تُحدِّده معايير القبول في المشروع الأمريكي-"الإسرائيلي".

ويتقاطع هذا التوجه مع ما تُعرف به نظريات ما بعد الاستعمار، وبالتحديد "نظرية التحديث القسري"، التي ترى أن القوى الاستعمارية حين تفشل في إخضاع الشعوب بالسلاح تنتقل إلى فرض أشكال من الهيمنة الناعمة، تقوم على إعادة ترتيب القيم والاحتياجات والأولويات. ويجري ذلك عبر تحويل البقاء على قيد الحياة إلى "امتياز مشروط"، وربطه بسلوك سياسي واجتماعي يتماهى مع أجندة الاحتلال.

تحت هذا الغلاف، لم تعُد المساعدات وسيلة إنقاذ، بل أصبحت مصفاة هندسية اجتماعية، تفرِز من خلالها الجهاتُ الدوليةُ "الجدير بالعيش" من "الرافض لشروط السيطرة"، ويُعاد تشكيل الطبقات الاجتماعية بناءً على قابلية الطاعة، في صعودٍ لوكلاء التمويل، وانحسار للحاضنة الوطنية.

الولايات المتحدة، في ضوء هذه المعطيات، لا تتعامل مع غزة بوصفها منطقة منكوبة تحتاج إلى إغاثة، بل كميدان قابل لإعادة التشكيل السياسي والاجتماعي، تُمارَس فيه أدوات الضبط والسيطرة عبر العنف غير المباشر: الحصار، والتجويع، والمساعدات المشروطة، والتلاعب بالبنية المجتمعية. وكل ذلك بهدف إنتاج مجتمع يمكن إدارته والتحكم به، لا مقاومته ومجابهته.

إدامة الحرب: المساعدات كغطاء لعدوان جديد

تعيد الاندفاعة الأمريكية الحالية نحو مشروع السيطرة على المساعدات في قطاع غزة إلى الأذهان سرعة التحرك الأمريكي سابقًا لإقامة "الميناء الأمريكي" على شواطئ غزة، تحت العنوان الإنساني ذاته، والمتمثل بتسهيل إيصال المساعدات إلى السكان المنكوبين.

وعلى الرغم من أن المشروع السابق انتهى إلى فشل ميداني وسياسي مدوٍّ، فإن ما يثير القلق اليوم هو التشابه في التوقيت والوظيفة، ففي كلا الحالتين جاءت "المبادرات الإنسانية" في لحظة تصعيد عدواني إسرائيلي، ما يكشف أنها لا تنفصل عن الخطط العسكرية الأشمل، بل تُستخدم كأغلفة ناعمة لها.

فقد مثَّل مشروع "الميناء العائم"، في حينه، الغطاء اللازم لتبرير الاحتلال الإسرائيلي لمعبر رفح، والسيطرة على الشريط الحدودي مع مصر، في وقت كان العدوان يتصاعد شمال القطاع. 

واليوم، تأتي الخطة الأمريكية الجديدة لتوزيع المساعدات، في ذروة حديث حكومة الاحتلال عن عملية "مركبات جدعون"، التي تهدف إلى إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، وتهجير سكان شمالي القطاع نحو الجنوب، تمهيدًا لتحويل رفح إلى سجن كبير، تُفرَض عليه رقابة أمنية مشددة، وتُدار فيه حياة السكان بما يشبه مشاهد الفرز الجماعي والتطهير العرقي.

في هذا الإطار، لا تُصبح الخطة الأمريكية أداة إنسانية مسيَّسة فقط، بل تصبح كذلك ضوءًا أخضر لتمديد أمد الحرب، وتوفير غطاء أمريكي جديد لمرحلة أكثر وحشية من العدوان. إذ تُوظَّف المساعدات كعنصر مركزي في مشروع السيطرة وإدامة الإبادة، لا في مسار وقف الحرب أو حماية السكان.

لا يمكن فصل هذه الحرارة الأمريكية في فرض آلية مشروطة للمساعدات عن الرغبة في هندسة البيئة السياسية والمجتمعية في غزة بما يخدم مشروع الاحتلال، ولا عن المحاولات المستمرة لتفكيك مقومات الصمود المجتمعي الفلسطيني تحت لافتة الحماية الإنسانية.

وبالتالي، فإن التصدي لهذا المشروع لا يمر فقط من بوابة الرفض التقني أو الإغاثي، بل من بوابة الاشتباك السياسي مع الفكرة ذاتها، وفضح الخطط التي تُلبِّس مشاريع التهجير والتطويع لباسًا إنسانيًّا. 

فمن يريد إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني يعمل على وقف الحرب لا على تأبيدها، ويواجه سياسات الاحتلال ولا يغلفها بمؤسسات ومبادرات خادعة هدفها إعادة تشكيل الفلسطينيين من بوابة الجوع لا من بوابة التحرر.

 

*المصدر: شبكة قدس الإخبارية | qudsn.net
اخبار فلسطين على مدار الساعة