مأزق "الجيش الإسرائيلي" والمعركة الفاصلة
klyoum.com
دخلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فصلا جديدا ببدء ما يصفها بنيامين نتنياهو بـ "المرحلة الحاسمة" من الحرب، ويسميها القادة العسكريون "العملية الأساسية"، وهدفها المعلن هو السيطرة على مدينة غزة نفسها، وتحرير الأسرى، والإجهاز على ما تبقى لدى "حماس" من قدرات عسكرية أو إدارية.
في الحقيقة ترمي هذه العملية إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو عزل شمال القطاع تماما، وجعله منطقة غير صالحة للعيش، لإقامة مستعمرات يهودية عليه، يكون ظهرها محميا باحتلال مدينة غزة، ثم إعطاء عملية التهجير القسري لأهل غزة دفعة قوية، إذ إن مدينة غزة لجأ إليها الكثير من سكان شمال القطاع، بل بعض من يقطنون جنوبها لاذوا بها، بدلا من الفرار إلى خان يونس.
تُعول إسرائيل- بحشدها عدة فرق عسكرية لهذه العملية- على أن تؤدي كثافة النيران، لا سيما بعد أن شرعت بالفعل في ضرب العديد من الأبراج السكنية في غزة، إلى هروب جماعي للمدنيين نحو الجنوب، فتفقد المقاومة جزءا كبيرا من حاضنها الاجتماعي، فتنكشف ظهور مقاتليها، ويتيسر للقوات الغازية الوصول إلى الأنفاق تحت الأرض، التي تمثل البنية التحتية العسكرية الأساسية للمقاومين.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل تيسر الطريق أمام الجيش الإسرائيلي هذه المرة لتحقيق ما أخفق فيه أو تعثر من قبل، لا سيما ما أسماه "استئصال حماس"، و"تحرير الرهائن"، توطئة لتهجير يتمناه للفلسطينيين، وتصفية قضيتهم، وقطع الطريق على فكرة إقامة دولة لهم؟
إن "نظرة طائر" على الوضع العام تبين، وللوهلة الأولى، أن الجيش الإسرائيلي ليس في نزهة أبدا. أما النظرة الدقيقة والمتأنية والمشغولة بالتفاصيل، فتبين أن هذا الجيش في مأزق، لا يقل عن ذلك الذي كان يواجهه وقت اجتياحه البري الأول، القطاع نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وذلك للأسباب التالية:
أما اليوم فإنه، إن التزم بما تعلنه الحكومة الإسرائيلية، فسيكون عليه خوض حرب من شارع إلى شارع، ومن حارة إلى حارة، وأن يصل إلى قلب المدينة، ويستقر فيها، ويعمل على ما يجعل وجوده مستمرا آمنا.
وهذه مهمة شاقة، مع مقاومة تعمل وفق نمط "حرب العصابات"، وتعرف جغرافية المدينة أكثر من الجنود الإسرائيليين بالطبع، وهي لن تكون أمامهم طول الوقت، إنما تكر من الأنفاق لتنفذ عمليات تؤلم الجيش الغازي، ثم تفر إليها.
نعم طالما توغل الجيش الإٍسرائيلي في مدن بالضفة الغربية، ووصل إلى كل شارع فيها حين أراد، لكن الحال في غزة يختلف، فهو يواجه مقاومة أكثر تدريبا وتسليحا لا تزال قادرة على الصمود والمجابهة، رغم كل ما جرى، وفي أتون حرب أشد اشتعالا، ومع معركة جعلتها إسرائيل صفرية، ووسط كثافة سكانية أعلى.
3. يخوض الجيش الإسرائيلي المعركة هذه المرة وفي ذهن قادته أن عدد المصابين في صفوفه بلغ 20 ألف مصاب، منذ بداية الحرب، حسب تقرير لوزارة الدفاع الإسرائيلية نشرته صحيفة "معاريف"، ذلك بخلاف القتلى الذين يتم التكتم على أعدادهم. وهذا الرقم سيكون ضاغطا على أذهان الجنود والقادة في آن.
4. في الاجتياح الأول كان الجيش الإسرائيلي قد قام بتسويق نفسه عالميا بأنه في حالة دفاع عن النفس، أو في موقف "رد العدوان"، متكئا على إدانة دولية واسعة لما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بعد قطع هذا الحدث عن السياق والتاريخ والألم الفلسطيني.
أما اليوم فهو قد ذهب إلى المعركة وعلى جبينه وصمة ارتكاب "إبادة جماعية"، وهناك مظاهرات ضده تجوب مدنا كثيرة في العالم، وأولاها مدن الغرب الذي تعتبره إسرائيل حاضنا دوليا لها، وهناك إعادة نظر في السردية الإسرائيلية برمتها، ويوجد أيضا تغير في الصورة التي رسخت "للدولة العبرية" منذ نشأتها وإلى الآن.
5. تعاني الحكومة الإسرائيلية، التي اتخذت قرار احتلال مدينة غزة الذي ينفذه الجيش، هذه المرة من ضيق الوقت، وحيرة واضطراب، وتخوف عكسه عدم تحديدها وقتا للمعركة.
فحين بدأت إسرائيل أول ضربة للقطاع في هذه الحرب تحدثت عن نصر سريع حاسم، وكررت هذا مع كل جولة، واصفة إياها بـ "المعركة الفاصلة"، وأطلقت على بعض العمليات أسماء مشحونة بالصور والدلالات والمجازات في إطار تعبئتها الإسرائيليين حولها، لكن انتهت كل معركة فيها دون أن تحقق الأهداف التي حددها نتنياهو ومن معه.
نعم، زادت إسرائيل في تدمير غزة وقتل أهلها وتجويعهم ووضعهم على حافة التهجير القسري، لكن مع كل دم يراق، وبيت يهدم، وفم يُحرم من الطعام، تخسر إسرائيل على المستوى الإستراتيجي، كما كسبت أيضا عبر هذا المستوى منذ أن كانت إقامة دولة لليهود حلما يراود من اجتمعوا في مدينة بازل السويسرية حول الصهيوني ثيودور هرتزل عام 1897، حتى صار هذا حقيقة بعد أكثر من نصف قرن.
ولم ينكر نتنياهو نفسه نزيف الصورة، الذي بدأ يترجم إلى خسارة مادية مؤثرة، مثل إلغاء صفقات استيراد سلاح من إسرائيل، ووقف استيراد سلع منها، إلى جانب تغير في الرأي العام العالمي، حتى في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، فراح يحدث الإٍسرائيليين عن "عزلة" تواجههم، ثم حاول أن يلوي الحقائق بزعم أن هذا في صالحهم.
وهو استنتاج خاطئ تماما، إذ إن إسرائيل دون الحبل السري بينها وبين مناصريها في العالم لكان وجودها قد تضاءل، وأفل نجمها، وصارت بمرور الوقت أثرا بعد عين، مثلما حدث للممالك والإمارات الصغيرة التي أقامها الفرنجة في المكان نفسه خلال القرون الوسطى، وكانت تحيطها أسوار تعزلها عن محيطها العربي ـ الإسلامي، لكنها ظلت مفتوحة على البحار يأتيها المدد من أوروبا.
6. يخوض الجيش الإسرائيلي معركة احتلال غزة وسط معارضة داخلية ازدادت حدة، على النقيض من الاجتياح الأول. ولم يقتصر الأمر على أهل الأسرى، ولا الرافضين للتجنيد، إنما هناك مسار يتعزز في صفوف الرأي العام الإسرائيلي الآن، تتصدره بعض الوجوه البارزة، مثل رئيس الوزراء السابق إيهود باراك الذي يرى أن "الجيش الإسرائيلي سيغرق في وحل غزة"، ونظيره السابق أيضا إيهود أولمرت الذي ينتقد أداء هذا الجيش بأنه "وحشي للغاية"، فيما يقول يسرائيل زئيف قائد فرقة غزة الإسرائيلية نفسه: "بحْث نتنياهو عن أي نصر بأي ثمن لن يفيد إسرائيل أبدا".
نسمع الآن من نتنياهو خطابا أصوليا، يستدعي المقولات والمرويات الدينية التاريخية المفعمة بالأساطير، ومن يسرائيل كاتس وزير الدفاع الإسرائيلي خطابا حماسيا، حين يقول: "لن نلين ولن نتراجع حتى اكتمال المهمة"، ومن المتحدث باسم الجيش إذ يقول: "نمضي قدما نحو مرحلة جديدة ومكثفة من عملية عربات جدعون".
في الحقيقة هذا خطاب مستعاد ومكرور، سمعه الناس من قبل. نعم يمكن أن يكون الجيش الإسرائيلي الآن أكثر توحشا، لكن في المقابل صارت المقاومة أكثر تمرسا في المواجهة، لا سيما أن المعركة الجديدة ستكون معركة شوارع، وأكبر الجيوش النظامية في العالم يرهقها تكتيك "حرب العصابات"، لا سيما إن بقي الحاضن الاجتماعي للمقاومة مكانه، رغم ما يتعرض له من أهوال وشدائد.