الاحتواء بالقوة: قراءة في الضربة الأميركية وخيارات الرد الإيراني
klyoum.com
طهران - خاص قدس الإخبارية: في تطور دراماتيكي يُنذر بإعادة خلط أوراق الاشتباك الإقليمي، نفذت الولايات المتحدة فجر الأحد ضربات جوية مركزة على المنشآت النووية الإيرانية، استهدفت على وجه الخصوص منشأة "فوردو" شديدة التحصين، إلى جانب موقعي "نطنز" و"أصفهان".
العملية التي يمكن وصفها بـ"المدروسة والدقيقة" التي قادها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حملت رسائل متعددة في توقيتها، ومستواها العملياتي، والجهة المستهدفة، لكنها في ذات الوقت أبقت على الخطوط الحمراء التقليدية: لا مواجهة برية، ولا استهداف شامل، ولا انزلاق إلى مواجهة مفتوحة.
السؤال الآن لم يعد متعلقًا بنجاح الضربة الأميركية في تدمير أهدافها، بل بما ستفعله إيران في اليوم التالي: هل تمضي نحو التصعيد المفتوح؟ أم تكتفي بردود محسوبة تعزز مكانتها دون فتح جبهة حرب شاملة؟ هذا التقرير يقرأ في دلالات الضربة، ويستعرض الاحتمالات الإيرانية المتاحة، والسياقات التي تؤطر خيارات طهران في هذه المرحلة الحرجة.
رمزية الضربة وحدودها
المنشآت المستهدفة لم تكن عسكرية تقليدية، بل تمثل "جواهر" البرنامج النووي الإيراني، خصوصًا فوردو التي تقع داخل جبل وتُعد من أكثر المواقع تحصينًا في إيران. وقد تم استخدام قنابل خارقة للتحصينات والمعروفة باسم جي بي يو-57 بوزن 30 ألف رطل، وقصف الموقع بـ6 قنابل رغم أن قنبلتين كانتا كافيتين، مما يشير إلى أن الهدف لم يكن فقط التدمير، بل تحييد رمزية فوردو وإرسال رسالة ردع قاسية إلى طهران.
مع ذلك، حرصت واشنطن على رسم حدود للضربة: لا استهداف للبنية التحتية العامة، لا قصف لبنية النظام الرئيسية، ولا اغتيال سياسيين أو قادة عسكريين. ويعزز ذلك فرضية أن الضربة إضافة لنوعيتها، فقد حملت ملامحاستعراضية – سياسية أكثر منها عملية تمهيد لحرب شاملة، وهو ما انعكس في تصريحات ترامب المتكررة عن "فرصة السلام"، مقابل تهديده بضربات "أسهل وأعظم" إن لم ترضخ إيران.
ومن الواضح أن ترامب سعى من خلال هذه العملية إلى تحقيق نصر سريع يمكن وصفه بالاستراتيجي، لكن دون التورط في معركة مفتوحة أو مُكلفة. ويتماشى هذا التوجه مع عقيدته السياسية الخارجية التي تُفضّل تقليص الانخراط العسكري المباشر، مقابل إظهار صورة الرجل القوي الذي لا يتردد في استخدام "قوة أميركا العظمى" عند الحاجة. وبناءً على هذا التصور، صُممت الضربة لتوازن بين الاستعراض والقوة، وبين ضبط السقف وتجنّب الانزلاق نحو حرب لا يمكن التحكم بنتائجها.
الضربة من منظور الاحتلال الإسرائيلي: طموح لا يتحقق بالاحتواء
رغم أن الضربة الأميركية جاءت متوافقة مع الرغبة المركزية لدى الاحتلال الإسرائيلي بجلب تدخل عسكري أميركي مباشر ضد البرنامج النووي الإيراني، إلا أن حدودها وضبط إيقاعها لا ينسجمان تمامًا مع الأجندة العدوانية للاحتلال، التي تتجاوز فكرة التحجيم إلى محاولة تحقيق تحييد نهائي للنفوذ الإيراني في الإقليم.
فحكومة بنيامين نتنياهو لا تسعى فقط لتوجيه رسالة ردع أو لتقويض منشآت محددة، بل تتطلع إلى تدخل أميركي حاسم يُفضي إلى إسقاط النظام الإيراني أو تحييده بالكامل من معادلات التأثير في الشرق الأوسط.
هذا التطلع الاستراتيجي يأتي في سياق مسعى الاحتلال الإسرائيلي لتثبيت صيغة "شرق أوسط جديد" يُعاد فيه تشكيل ميزان القوى لصالحه، ويكون هو الطرف المُهيمن والمُقرر بدعم أميركي مطلق، دون وجود قوى ممانعة تُشكل تهديدًا مباشرًا أو غير مباشر له.
وفي هذا الإطار، يرى نتنياهو أن هذه اللحظة – بما تحمله من اختلالات دولية وإقليمية وتآكل في بيئات المقاومة – قد تكون الفرصة المثالية لفرض هذه الصيغة.
لكن الضربة الأميركية، بطبيعتها المحدودة والمدروسة، وإمكانية احتوائها من قبل طهران دون استهداف مباشر للوجود الأميركي يُدخل الطرفين في دائرة مواجهة واسعة، تُهدد بإفراغ هذا "الإنجاز العسكري" من مضمونه السياسي، وقد تعيد الحسابات إلى مربع الردع المتبادل بدل الحسم الكامل الذي يطمح إليه الاحتلال.
وهو ما يعني أن الشرخ بين سقف تطلعات الاحتلال الإسرائيلي وحدود الاستجابة الأميركية قد يتسع، لا سيما إذا اختارت واشنطن مواصلة استراتيجية الاحتواء وعدم الانجرار إلى حرب واسعة لا تخدم مصالحها الكبرى.
الموقف الإيراني الرسمي… لغة القانون لا لغة الحرب
منذ الساعات الأولى بعد الضربة الأميركية، حرصت طهران على ضبط نبرة الخطاب الرسمي، وتوجيه الردود ضمن قنوات محسوبة لا تفتح الباب لتصعيد فوري أو اشتباك مباشر مع واشنطن. فقد سارعت منظمة الطاقة الذرية الإيرانية إلى التأكيد أن المواقع المستهدفة، وعلى رأسها فوردو ونطنز وأصفهان، كانت منشآت نووية سلمية تخضع لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأن الهجوم عليها يُمثّل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومعاهدة عدم الانتشار النووي.
هذا التوصيف القانوني جاء مدعومًا بخطاب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي اتهم الولايات المتحدة بـ"الاستخدام غير المشروع للقوة"، مشددًا على أن بلاده "تحتفظ بحقها المشروع في الدفاع عن النفس"، في الوقت الذي دعا فيه مجلس الأمن الدولي إلى الانعقاد بصورة عاجلة للنظر في "هذا الانتهاك الخطير للسلم الدولي".
وفي السياق ذاته، رأت وزارة الخارجية الإيرانية أن الضربة تمثّل "عدوانًا عسكريًا وحشيًا"، وتؤكد أن الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي يقفان خلف هذا التصعيد المتزامن، محملة واشنطن المسؤولية الكاملة عن العواقب. اللافت أن البيان الإيراني ركّز على أن ما جرى لن يؤثر على تصميم إيران على مواصلة تطوير برنامجها النووي السلمي، بل قد يدفع باتجاه إعادة النظر في مستوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
بموازاة هذا الخطاب السياسي والقانوني، جاء بيان الحرس الثوري الإيراني بلغة أعلى حدة، حيث وصف الضربة بأنها "جريمة صريحة منسقة بين النظام الأميركي والنظام الصهيوني"، وهدد بردود مستقبلية موجعة، دون أن يحدّد توقيتها أو طبيعتها. لكنه في الوقت نفسه، أشار بشكل غير مباشر إلى أن الضربة، رغم خطورتها، لم تُحدث تحولًا نوعيًا في ميزان القوة، وأن "الجبهة المعتدية تفتقر للمبادرة والاستمرار في الميدان".
ويمكن قراءة مجمل الخطاب الإيراني باعتباره صبّ في إطار احتواء الصدمة لا إشعال الرد، وذلك بما يتضمن بيان الحرس الثوري، الذي جاء منسجمًا مع هذه المقاربة، إذ ربط استمرار المواجهة بـ"الردود القادمة ضد الكيان الصهيوني"، لا ضد واشنطن، ما يشي بأن إيران حريصة على إبقاء النزاع محصورًا في ميدان المواجهة الرئيسية مع الاحتلال الإسرائيلي، وتفادي تثبيت سقف لشكل الرد ضدالولايات المتحدة مباشرة.
مؤشرات الاحتواء المسبق
من اللافت أن تقارير استخبارية أميركية وصور أقمار صناعية نشرتها واشنطن بوست، كشفت عن نشاط غير اعتيادي في موقع فوردو قبل يومين من الضربة، ووجود 16 شاحنة على الطريق المؤدي للمجمع، ما يدعم تقديرات بأن إيران توقعت الضربة، وتعاملت معها كأمر واقع قادم، فقامت على الأرجح بإخلاء بعض المواد الحساسة. وقد صرح مصدر إيراني لرويترز أن "معظم اليورانيوم المخصب نُقل لموقع سري".
هذا يعزز فرضية أن إيران كانت تسير في مسار الاستعداد للاحتواء، لا المواجهة، خصوصًا مع تنامي التوقعات بأن أي ردّ مباشر ضد القوات الأميركية سيُستخدم كذريعة لتوسيع الحرب.
خيارات طهران بين التصعيد والاحتواء
في ضوء الضربة الأميركية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، بات واضحًا أن طهران لن تذهب على الأرجح نحو خيار المواجهة المفتوحة مع الولايات المتحدة، بل ستعمل ضمن نطاق خيارات محسوبة، تضمن الرد المعنوي والردعي من جهة، وتتفادى إشعال حرب شاملة من جهة أخرى.
الرد الإيراني المتوقع سيكون على الأغلب ضمن إطار عمليات محدودة، تُبقي الاشتباك محصورًا في المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، واستهداف محسوب جدًا للقوات الأميركية.
الخيار الأبرز، والأقرب لسوابق إيران في إدارة الأزمات، يتمثل في تنفيذ ضربة عسكرية استعراضية محدودة، تستهدف قاعدة أميركية أو موقعًا ذا صلة بالوجود العسكري الأميركي في المنطقة، بطريقة تُعيد إنتاج نموذج الرد على اغتيال قاسم سليماني مطلع عام 2020.
هذه الضربة المحتملة ستكون دقيقة ومدروسة، يجري التمهيد لها سياسيًا وإعلاميًا، وتحمل طابعًا رمزيًا يفي بغرض "الرد على العدوان"، مع الحرص على عدم إيقاع خسائر بشرية مباشرة في صفوف القوات الأميركية، تجنبًا لفتح سلسلة من الضربات المتبادلة التي قد تخرج عن السيطرة.
إلى جانب ذلك، من المرجح أن تعمل طهران على تعزيز خطابها القانوني الدولي، بالاستناد إلى رواية "المظلومية"، من خلال طلب عقد جلسة طارئة في مجلس الأمن، وتسليط الضوء على انتهاك الولايات المتحدة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، بوصف الضربة اعتداءً على منشآت نووية سلمية تخضع لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفي موازاة المسار السياسي، يُتوقع أن تستمر طهران في الرد الصاروخي عبر جبهة فلسطين المحتلة، لا سيما في إطار عملية "الوعد الصادق 3"، التي ينفذها الحرس الثوري ضد الاحتلال الإسرائيلي، كوسيلة لإبقاء الاشتباك في ساحة أكثر قابلية للإدارة من الناحية السياسية والإستراتيجية.
ولا يُستبعد كذلك أن تلجأ إيران إلى تنفيذ عمليات إلكترونية أو استخبارية دقيقة تستهدف منشآت أو مصالح أميركية أو "إسرائيلية"، ضمن حدود محسوبة لا تستوجب ردًا مباشرًا، وتُحقق هدف الإرباك والتذكير بالقدرات دون التسبب بتصعيد شامل.
إضافة إلى ذلك، يُرجّح أن تحافظ القيادة الإيرانية على لهجة سياسية منضبطة تجاه واشنطن، تتجنب فيها رفع سقف الخطاب إلى مستوى غير قابل للتراجع. فطهران، رغم التهديدات العلنية، تدرك أن المواجهة الشاملة مع الولايات المتحدة لا تصب في مصلحتها في هذه المرحلة، وتفضل بناء توازن ردع مرن يحفظ مكانتها من دون أن يُعرضها لخطر الانهيار أو الفوضى الشاملة.
ويُعزز كل ما سبق أن طهران تفهم الضربة الأميركية ضمن محدداتها الرمزية والسياسية. لذلك، الأرجح أن تتبنى مقاربة مزدوجة: احتواء الانفجار… دون التفريط بهيبة الردع، أي إنها سترد، ولكن بالطريقة التي تُبقي الاشتباك مضبوطًا، ولا تتيح لواشنطن إعادة تدوير الحرب وفق شروطها.
ما بين التكتيك وصفرية الحسابات
الضربة الأميركية للمنشآت النووية الإيرانية، رغم فداحتها الفنية ورمزيتها العالية، لم تُخرج واشنطن أو طهران عن قاعدة الاشتباك المدروس. بينما سعت إدارة ترامب إلى رسم حدود النار دون التورط في حرب، تبدي إيران حرصًا أكبر على تثبيت هذه الحدود، مع إبقاء الباب مفتوحًا أمام الرد المحسوب.
وبالتالي، يمكن الجزم أن الضربة الأميركية، رغم رمزيتهاومستواها العملياتي، لم تتجاوز الخطوط الحمراء الإيرانية التي تُدخل المواجهة في خانة الحسابات الصفرية؛ أي شن حملة عسكرية شاملة تهدف لإسقاط النظام، أو تنفيذ عملية اغتيال تطال رأس النظام ممثلًا في المرشد الأعلى علي خامنئي.
وعليه، فإن إبقاء حدود الاشتباك مع الولايات المتحدة عند أدنى مستوياتها لا يُعد فقط خيارًا تكتيكيًا، بل يمثل مصلحة استراتيجية مباشرة لطهران، تُجنّبها الانجرار نحو "مرحلة اللاعودة" في معركة لا تُضمن نتائجها، خصوصًا حين تُخاض ضد قوة عظمى في ذروة استنفارها.
بهذا الفهم، تُواصل إيران إدارة التوازن بين الردع والاحتواء، واضعة نُصب أعينها القاعدة الأهم في عقل النظام: ما يُدمّر اليوم يمكن ترميمه غدًا… طالما بقي النظام قائمًا ومتماسكًا. وهي عقيدة حكمت سلوك طهران في محطات بالغة الحساسية، من حرب الثمانينيات إلى اغتيال قاسم سليماني، وتبدو اليوم حاضرة بوضوح في إدارة الرد على استهداف المنشآت النووية.