هل من حياة على كوكب آخر؟
klyoum.com
د. حسن شريف(*)
في شهر نيسان/ إبريل الماضي أعلن نفرٌ من أساتذة عِلم الفلك في جامعة كامبردج البريطانيّة أنّهم التقطوا من كوكب K2-18b - الذي يبعد عنّا 122 سنة ضوئيّة - إشارات إلى جُزيئات لمركبات كيميائيّة عضويّة لا تُنتجها على أرضنا إلّا كيانات صُغريّة عضويّة حيّة. وكانت تلك الإشارة الثانية والأكثر دلالةً على وجود هذه المركبات الكيميائيّة العضويّة المُرتبطة بجسيمات حيّة يتمّ التقاطها في جوّ ذلك الكوكب، بواسطة تلسكوب «جايمس وب» الفضائيّ، أهمّ تلسكوب لوكالة ناسا في فضاء الأرض اليوم.
إلّا أنّ هؤلاء الفلكيّين يؤكّدون أنّ هنالك حاجة إلى مزيدٍ من البيانات، ويأملون بالحصول على بيانات مؤكَّدة في القريب العاجل.
على الأرض، يُعتبَر مَركبا ديمثيل سلفايد Dimethyl Suplhide (DMS) وديمثيل ديسلفايد Dimethyl Disulfide (DMDS) من المؤشّرات المهمّة لوجود حياة، لا يصدران إلّا عن جُسيمات ميكرويّة صُغريّة حيّة. وهذا الحَدَث لا يتعلّق بوجود «مخلوقات ذكيّة» على ذلك الكوكب، ولكنْ ببدايات حياةٍ عضويّة على مستوى جُسيماتٍ ميكروسكوبيّة حيّة فقط. ومع ذلك، فوجود مثل هذه المخلوقات الحيّة الصُغريّة قد يُمثِّل إشارة إلى احتمال تطوّر «حياة» في المدى البعيد إلى «مخلوقات ذكيّة» على الكوكب، كما حصل على كوكب الأرض عبر مئات ملايين السنين.
تعريف الحياة
حيث إنّ الإنسان لا يعرف إلى اليوم «حياةً» خارج كوكب الأرض، فإنّ تعريف «الحياة» يرتبط بما نعرفه عن ذلك على كوكب الأرض، على الرّغم من أنّه قد تكون هناك أشكالٌ أو تنويعاتٌ حياتيّة أخرى في مكانٍ ما في هذا الكون العظيم.
يُعرِّف بعضُ العلميّين «الحياة» على أنّها مجموعة من التفاعُلات الحيويّة الكيميائيّة المُترابطة والمُعقّدة التي تَستجلب الطّاقةَ من البيئة الطبيعيّة حولها، وتَستهلكها من أجل الاستمرار والتوالُد، بمساعدة جُزيئات عضويّة أخرى محدَّدة، مثل حوامض الريبوزون RNA وديوكسيربونكليك Deoxyribonucleic (DNA). وباستهلاك هذه الطّاقة يستطيع الكائن الحَيّ أن يتوالد ويتطوّر.
وإذا اعتبرنا الحياة على الأرض هي المقياس، فإنّ الحياة تَشمل كائناتٍ من مستوى الخليّة الحيّة الواحدة صُعُداً وتطوُّراً إلى حياةٍ ذكيّة في أعلى درجاتها، أي الإنسان.
هل مِن أحد هنالك يا سامعين الصوت؟!
في العام 1990 قامَ كارل ساغان Carl Sagan - عالِم الفلك، وصاحب أشهر مسلسل تلفزيوني أميركي حول الكَون خارج الأرض - بتجربةِ استخدام مركبة الفضاء الأميركيّة غاليليو لتحوّل أجهزة الرصد فيها نحو الأرض، لمعرفة ما إذا كان في الإمكان رصد إثباتات في الفضاء للحياة على الأرض. وقد رصدتْ مركبةُ غاليليو طَيف إشعاعات الشمس بعد اختراقها للغلاف الجويّ للأرض، فنجحتْ في رصْد أطياف الميثان والأوكسجين، وكلاهما مؤشّر مهمّ على الحياة. كما أَخذت المركبة صوراً للأرض على مُختلف أطوال الأمواج الإشعاعيّة، وكشفت عن وجود ما يسمّى «الحدّ الأحمر Red Edge» الذي يُمثّل تغيّراً حادّاً في انعكاسيّة غلاف جوّ الأرض عند مَوجات الضوء الأحمر، ما فسّره ساغان بوجود التركيب الضوئي Photosynthesis للنباتات الحيّة على سطح الأرض.
وكان هنالك مؤشّر ثالث، ليس لوجود حياة على الأرض فقط، ولكن لتطوّر «حياة ذكيّة» عليها، برصْد حيّزٍ ضيّق للإشعاعات الكهرومغناطيسيّة التي تطوف سطح الأرض، وتلك كانت مَوجات الراديو والتلفزيون ذات القيَم المتغيّرة غير المُنتظِمة، ما يَعكس تطوّراً تكنولوجيّاً للحياة على الأرض. وهذا كان المؤشّر الأهمّ لوجود «حياة ذكيّة» لكوكبٍ يُرصَد عن بُعد، وهو ما يَعتمد عليه عُلماء الفَلك اليوم في البحث عن إشعاعاتٍ غير مُنتظِمة على سطح أيّ كوكبٍ خارج المنظومة الشمسيّة، بحثاً عن حياة ذكيّة.
وقد تشكَّلت مجموعاتٌ بحثيّة في العديد من الجامعات والمراصد لدراسة ما يُمكن أن يؤشِّر إلى وجود حياة خارج المجموعة الشمسيّة، وتبلْورت مؤشّراتٌ في هذا الإطار، مثل «مؤشّر احتمالات الرصد Detectability Index» لترتيب الكواكب المُكتشَفة في احتمال وجود حياة عليها. من ذلك التقاط طَيف إشعاعات الأوكسجين، ومن ذلك أيضاً وجود الماء السائل بكميّاتٍ كبيرة تَسمح باكتمال دَورة المياه في الغلاف الجويّ والمُحيطات في تلك الكواكب، وكذلك بالطبع وجود كتل اليابسة بانتشارٍ كافٍ لاكتمال دَورة الحياة عليها.
ملايين الكواكب حول نجومها
لقد أكّدتِ الأرصاد من الأقمار الصناعيّة، ومن المراصد على الأرض، أنّ هنالك ملايين الكواكب المُماثلة للأرض خارج النظام الشمسيّ في مجرّة درب التبّانة، ومثلها في كلّ مجرّة من بلايين المجرّات في الكون.
لقد سمّى الفلكيّون السكون في هذا الكون، وعدم تسلّمنا أيّ رسالة من حضارات أبعد من النظام الشمسيّ «تناقض فرمي» Fermi Paradox، وهو التناقُض بين رصْدنا لمليارات الكواكب التي تدور حول نجومها - بعضها أقدم من الشمس وبعضها بالطبع أحدث وأصغر في العُمر - وهذا السكون المُستغرب، وعدم تسلّمنا أيّ رسالة من أيٍّ من هذه الحضارات المُحتمَلة على بعض هذه الكواكب على الأقلّ.
أين نحن من هذه الأبحاث الآن؟
نحن الآن في نقطةِ تحوُّلٍ مع المستجدّات الهائلة في أدوات الرصد، وآخرها تلسكوب «جايمس وب»، ما يزيد بشكلٍ هائل قدرتَنا على سبْر أغوار الكون و»الاتّصال» بأيّ حضارة ذكيّة أخرى في الكون. وإذا أخذنا بالاعتبار «الحياة» على مستوى الجسيمات الصُغريّة الحيّة القادرة على الحياة في أقسى الظروف، سواء من حيث شدّة الحرارة أم الملوحة أم القلويّة أم الحمضيّة وحتّى المعرَّضة لكلّ أنواع الإشعاعات القاتلة بالنسبة إلى الإنسان، بما في ذلك تلك التي تستطيع الحياة في أعماق البحار، فإنّ احتمالات وجود مستويات حياة غير ذكيّة، وأدنى منها، تتضاعف ملايين المرّات. وهذا ما احتفلَ به الفلكيّون في كامبردج منذ شهرَيْن بالتحديد.
مؤشّرات رصْد حياة على كوكبٍ آخر
والتقاط احتمال وجود حياة على أيِّ كوكبٍ نرصده، ليس بالأمر السهل، فعلى الفلكيّين أن يَلتقطوا أمواج الضوء من الكوكب المرصود نفسه ومن الفضاء المُحيط به، وتحليل الضوء المرصود بحثاً عمّا يُعتبر «بصمة حياة» من المركبات الكيميائيّة بين أطياف الضوء التي يُمكن رصْدُها.
وتسعى «ناسا» حاليّاً لتوجيه مرآة بقطر 6.5 م لالتقاط الأمواج دون الحمراء تُوجَّه إلى مُختلف الكواكب التي يُحتمل وجود حياة عليها. ويُمكن القيام بذلك أيضاً من مراصد أرضيّة مختصّة عدّة. من ذلك التلسكوب الفائق العرض - تلسكوب ماجلّان العملاق الذي هو بعرض 30 م - والذي من المتوقّع أن يبدأ العمل به في العام 2030 وسيَختصّ بالتقاط أطياف المركبات الكيميائيّة التي يبثّها أيُّ كائنٍ حيّ في الكون. والمرقاب الآخر المتوقَّع في مطلع سنوات الأربعينيّات من هذا القَرن، هو مرصد العوالم المسكونة Habitable Worlds Observatory.
ولكنّ المركبات التي على الفلكيّين السعي لالتقاطها، وما يُسمّى البصمة البيولوجيّة، ما زال مضمارُها مجالَ جَدَل. فهنالك بالطبع جُزيئات الماء والميثان وثاني أوكسيد الكربون، لكنّ هنالك العديد من المركبات غيرها التي يُمكن أن تَدلّ على الجسيمات الحيّة الصُغريّة، مثل ديمثيل سلفيد Dimethyl Sulfide الذي لا يَصدر إلّا من كائناتٍ حيّة. وبالطبع ليس هنالك مركب واحد يُمكن اعتباره مؤشّراً أكيداً على «بصمة بيولوجيّة»، ولا بدّ من مجموعة مركبات تُلتقط من الكوكب نفسه لتأكيد وجود حياة عليه.
بقيَ أن نشير إلى أنّ البحث عن حضارات ذكيّة غير حضارة الإنسان في هذا الكون يمرّ اليوم بمُراجعة عميقة من العديد من الفلكيّين، وكذلك من علميّي البيئة والمجتمع، للأخذ بالاعتبار مدى استمراريّة هذه الحضارات.
وقد بدا ذلك مع إسحاق عظيموف، في كتابه الصادر في ستّينيّات القرن الماضي: «البحث عن حضارات ذكيّة خارج كوكب الأرض». فقد صَرخ مُحذّراً «لو ساروا مَسار الحضارة البشريّة فالاحتمال الأكبر أنّهم قَضوا على حضاراتهم ودمّروها». وأعطى الحضارة البشريّة بضعة قرونٍ قَبل أن تُفنى مدمِّرةً كلّ حضارة على كوكب الأرض، من خلال الاستهلاك المُفرط للموارد الطبيعيّة، وتدمير البيئة، وكذلك كلّ أسلحة التدمير الشامل التي قد تُدمِّر كوكب الأرض بصراعات البشر التي لا تنتهي!
واللّافت أنّ بعض عُلماء الفلك أَخذوا يُعدّلون من نظرتهم إلى استمراريّة الحضارات في الكَون، آخذين بالاعتبار العُمر المحدود للحضارات الذكيّة عندما تَصل إلى أوجّها، كما هي الحال مع الحضارة البشريّة اليوم، والتي بدأوا يُقدّرون تدميرها لذاتها خلال قرونٍ معدودة.
(*)باحث ومُترجِم من لبنان
يُنشر هذا المقال بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسّسة الفكر العربيّ