ليبيا دولة متعثّرة حتّى إشعار آخر
klyoum.com
د. يوسف محمّد الصوّاني*
على الرّغم من مرور أربعة عشر عاماً على انتفاضة العام 2011، لا تزال ليبيا بعيدة عن تحقيق الآمال العريضة التي ولّدها ذلك التغيير العنيف. وتشهد البلاد أوضاعاً غايةً في التعقيد، وهو ما يَطرح أسئلةً لا تتعلّق بالخيْبات والإحباطات فقط، بل أيضاً بإعاقة فُرص تحقيق الاستقرار والتنمية. السؤال الرئيس هنا يتمحور حول فهْم الديناميّات المعقّدة التي تعيق بناء الدولة؛ ولا شكّ أنّ القرّاء ليسوا بحاجة لأن أكرّر لهم هنا سرداً للأحداث، بل أن أقدّم تحليلاً للقضايا البنيويّة والاتّجاهات الرئيسة التي تَصِف المشهدَ اللّيبيّ وتُشخِّص تحدّياته.
منذ أن غابتِ السلطةُ المركزيّة عقب سقوط نظام معمّر القذافي، عانتْ ليبيا من تفكُّك المؤسّسات، وعرفتْ بدلاً منها مراكز قوى تُشكِّل منظومةً معقّدة من السلطات المُتداخلة والمُتنافسة تدّعي كلٌّ منها الشرعيّة. ففي طرابلس نَجِدُ حكومةَ الوحدة الوطنيّة والمجلس الأعلى للدولة المُنقسِم والمجلس الرئاسي الثلاثي الموحَّد شكليّاً. أمّا في شرق البلاد، فنَجِدُ مجلسَ النوّاب وحكومة الاستقرار الوطني المُعيَّنة من قِبَله.. علاوة على قوّاتٍ مسلّحة بقيادة خليفة حفتر تُسيطر على الشرق والجنوب. وأمام فشل حكومة الوحدة الوطنيّة في تحقيق الاستحقاقات الأساسيّة التي جلبتها، وهي الوحدة والاستقرار والانتخابات، تَبرز دعواتٌ متكرّرة لتشكيل حكومةٍ موحّدة جديدة، كما نادت بذلك أيضاً مظاهراتٌ حاشدة في غرب البلاد خلال شهر أيّار/ مايو من هذا العام.
يعكس التفكّك المؤسّسي معضلاتٍ أوسع تتعلّق ببناء الدولة في مراحل ما بعد الصراع، حيث تتصارع النّخب السياسيّة على السلطة والموارد. ذلك أنّ تنافس الشرعيّات أدّى إلى حالةٍ من الفراغ السيادي تملؤه الجماعات المسلّحة مع نمطٍ اقتصاديّ وماليّ يُعزِّز نفوذَها وقوىً دوليّة متنافسة ووجودٍ فاعلٍ للقوى الأجنبيّة فوق أراضيها. وهذه حالة ديناميّة يُمكن إدراكها عبر نماذج مفهوميّة مثل هشاشة الدولة والشرعيّة، كما صاغها ماكس فيبر، وحوْكمة ما بعد الصراع والدولة الهشّة كما يُنظَّر لها في حقل العلوم السياسيّة. ليبيا اليوم أنموذجٌ عمليّ لهذه المفاهيم، حيث ينخرها الفساد، وتعاني من أزمات متعدّدة في مقدّمتها العنف الداخلي، وعدم قدرتها على توفير السلع الأساسيّة لسكّانها ولا الأمن والشرعيّة لمواطنيها.
وتشكّل ليبيا ساحةً للتنافس الجيوسياسي؛ فالوجود العسكري الأجنبي يُمثِّل عائقاً جوهريّاً كما يتّضح في دعْم روسيا الصريح لسلطات الشرق، ودعْم تركيا لسلطات طرابلس، مع سعيٍ من دول الغرب وفقاً لمصالحها. هكذا أصبح التوافق الوطني أمراً غاية في الصعوبة، بل يتعزّز الانقسام الداخلي. وقد أدّى هذا الوضع إلى تصاعُد الإجراءات الأحاديّة، كما يتّضح من مراسيم أصدرها رئيس المجلس الرئاسي محمّد المنفي مُنفرداً، على الرّغم من مُعارَضة نوّابه في نيسان/ أبريل 2025 وعُلِّق بموجبها قانونٌ أصدره مجلس النوّاب بإنشاء المحكمة الدستوريّة. كما قرّر المنفي إنشاء هيئة تابعة له مختصّة بالاستفتاءات (المفوّضيّة الوطنيّة للاستفتاء والاستعلام الوطني) تعدّياً على اختصاص المفوضيّة الوطنيّة العليا للانتخابات (من المؤسّسات القليلة التي حافظتْ على وحدتها) ودعوته لإجراء استفتاء على مسودّة دستور أُعدّت في العام 2017 وسط صراعاتٍ وانقساماتٍ طالتِ الهيئةَ التي أعدّت المسودّة ذاتها، وجاءَ المرسوم الثالث ليُحدِّد آليّات انتخاب المؤتمر العامّ للمصالحة الوطنيّة.
أمّا اللّجنة الاستشاريّة التّابعة للأُمم المتّحدة، التي تشكّلت بموجب قرار مجلس الأمن 2755 والتي أُعلن عنها في العشرين من أيّار/ مايو 2025، فقدّمت آليّاتٍ لتجاوُز مجلس النوّاب والمجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي والاتّجاه في مسارٍ لحوار سياسي (حلّ الفرصة الأخيرة) يقود إلى مجلسٍ تأسيسيّ يتولّى لمدّة أربع سنوات الصلاحيّات التشريعيّة، يعتمد دستوراً مؤقّتاً ويشكّل سلطة تنفيذيّة، ويوحّد المؤسّسات، ويُترجِم مشروع المصالحة الوطنيّة، بما يَعني خروجاً متزامناً لكلّ الفاعلين المؤسَّسيّين من المَشهد. هذا لضمان عدم عرْقلتهم العمليّة السياسيّة التي تتضمّن اتّفاقاً على أساسٍ دستوريّ مؤقّت يُنظِّم المرحلة الانتقاليّة، وتشكيل سلطة تنفيذيّة موحّدة بمهامّ وولاية محدَّدة. وواضح أنّ مساراً من هذا النَّوع سيُواجِه معارضةَ قوى الأمر الواقع وسيواجه تحديّاتٍ كبيرة في ظلّ عدم توافُر ضماناتٍ كافية لتنفيذ أيّ اتّفاقٍ جديد غير مدعومٍ بضغطٍ أو باستفتاءٍ شعبيّ وخروجٍ للقوّات الأجنبيّة أو بقرارٍ مُلزِم من مجلس الأمن الدولي بحُكم أنّ ليبيا لا تزال تحت وصايته بموجب الفصل السابع من ميثاق الأُمم المتّحدة.
الأمن: تعدُّد الفاعلين أم حُكم الميليشيات؟
في غياب سلطةٍ موحّدة مركزيّة شرعيّة، تَبرز معضلةُ بناء مؤسّساتٍ أمنيّة موحّدة وفعّالة في ظلّ انعدام الثقة بين الأطراف. ومثلما يُجادِل عالِم الاجتماع الأميركي تشارلز تيلي (Charles Tilly) فإنّ الحرب تَصنع الدول، لكنْ في سياقات ما بعد النّزاعات، كما في ليبيا، يُصبح العنف آليّةً من ضمن عمليّة شاملة يتمّ فيها توزيع السلطة والثروة بين الأطراف فيتقوَّض الأمن ويستدام الصراع. صار التآكُلُ نصيبَ مؤسّسات الدولة التي أصبحت مجرّد أدوات للميليشيات؛ وهذا وضع لا يُمكن مقاربته بأيّ إطارٍ نظريّ، بما في ذلك مفهوم «الحوْكمة الأمنيّة الهجينة»؛ فالدولة باتت مجرّد رمزيّة باهتة لا تَفرض سلطتها وغير قادرة على تأمين حدودها.
ووفقاً لمفهوم اقتصادات العنف الداخلي، كما طوَّره أستاذُ الاقتصاد والسياسة العامّة في جامعة أوكسفورد بول كوليير (Paul Collier) تتحوّل الميليشيات المسلَّحة إلى فاعلين اقتصاديّين يستفيدون من استمرار حالة عدم الاستقرار والفوضى. فهي تسيطر على موارد الدولة وتَبتزّ المؤسّسات العامّة وتتحكّم في المنافذ والمعابر وتنشط في التهريب والإتّجار غير المشروع بما فيه الهجرة غير الشرعيّة والمخدّرات؛ إذ إنّ مصلحتها المباشرة تكمن في إعاقة بناء دولة مركزيّة قويّة. لذلك لا يُمكننا سوى توقُّع فشل محاولات إصلاح القطاع الأمنيّ وتوحيد المؤسّسات العسكريّة، كما هي الحال بالنسبة إلى اللّجنة العسكريّة المشتركة 5+5 التي تشكّلت بموجب اتّفاق وقف إطلاق النار في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2020.
الكليبتوقراطيّة تنهش ليبيا
تَستشري ظاهرةُ الكليبتوقراطيّة (Thievocracy/ Kleptocracy) في مفاصل الدولة اللّيبيّة كنظامِ حُكمٍ جوهره الفساد واللّصوصيّة والنَّهب، فيستمرّ تقويض المؤسّسات. ليبيا اليوم ليست سوى أنموذج لما يُمكن تسميته «دولة الظلّ» كحالةٍ تتحوّل فيها المؤسّسات الرسميّة إلى مجرّد واجهة لشبكاتٍ غير رسميّة من المصالح المُتداخلة في صراعٍ على الثروة والسلطة والنفوذ السياسي. وفي قلْب هذا الخَطَر تقف المؤسّسة الوطنيّة للنفط، مصدر الدخل الرئيس، إضافة إلى المؤسّسة اللّيبيّة للاستثمار والصندوق السياديّ، كما المصرف المركزي حارس المال العامّ. هذا الاستيلاء المُمَنْهَج على السلطة والثروة، لا يُمكن فهْم ديناميّته من دون الغَوص في أعماق القطاع المصرفي المعقّد واستكشاف السوق السوداء المزدهرة التي باتت ملاذاً للمُعاملات المشبوهة. فالنُّخب الكليبتوقراطيّة التي غالباً ما تتلقّى دعماً من قوىً أجنبيّة تستغلّ المصارف والمؤسّسات الماليّة والشركات العامّة والخاصّة كقنواتٍ لتبييض أموالٍ مسروقة وتهريبها إلى الخارج، حيث الانقسام والخارج أداة تسهّل لها مخطّطات الإثراء الفاحش. في اشتباكات طرابلس في أيّار/ مايو من العام 2025 انتشرتْ تقارير ومشاهد فيديو توثِّق اقتحامَ الميليشيات للمصرف المركزي لسحْب الأموال، بينما تعرَّضت معظم المباني الحكوميّة والمُمتلكات الخاصّة للنهب. كما تمَّ الاستيلاء على الخزانة التي تمّ العثور عليها في مقرّ جهاز دعْم الاستقرار مكتظّة بأموال ومبالغ طائلة بعُملاتٍ مُختلفة.
ومن ضمن اقتصادٍ ريعيّ بامتياز، يُمثّل قطاع النفط والغاز 60% من النّاتج المحلّي الإجمالي و97% من الإيرادات الحكوميّة، بينما القوّة العاملة تعمل أساساً في المؤسّسات الحكوميّة وقطاعاتها الخدميّة والإداريّة. هذا قد يُمكِّن من فهْم الأزمة الاقتصاديّة اللّيبيّة من خلال نظريّة «لَعنة الموارد» التي تُفسِّر كيف يُمكن للثروة النفطيّة أن تؤدّي إلى نتائج عكسيّة على التنمية والاستقرار السياسي. كما أنّ النفط والغاز يتحوّلان في ظلّ ضعف المؤسّسات وعدم الاستقرار السياسي إلى مصدر للصراعات الداخليّة والإقليميّة، كما أظهرت ذلك الإغلاقات المتكرّرة للحقول والموانئ النفطيّة وتخريب المنشآت وصراعات السيطرة عليها. وفيما تُشير تقديرات البنك الدولي إلى أنّ الاقتصاد اللّيبي تكبَّد خسائر تراكميّة تقدَّر بنحو 600 مليار دولار على مدى العقد الماضي، نَجِدُ أنّ غياب ميزانيّة موحَّدة وتعدُّد مراكز الإنفاق، يُعمِّق الانقسام المالي ويقوِّض أيّ استراتيجيّة اقتصاديّة وطنيّة موحَّدة.
وتكشف بيانات المصرف المركزيّ آليّة عجز كبير في العملة الأجنبيّة بلغ 5.2 مليار دولار في العام 2024 و4.5 مليار دولار في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2025. وقد أدّى هذا العجز، إلى جانب الضغوط السياسيّة، إلى تخفيض قيمة الدينار اللّيبي بنسبة 13.3%. هكذا تراجعتْ قيمةُ العملة الوطنيّة وتآكلتِ الاحتياطاتُ الماليّة بدرجةٍ خطيرة مع تدنّي مستوى معيشة السكّان وبروز انقسامٍ طبقي بين قلّة من الأغنياء وغالبيّة من الشعب تكاد تختفي فيه الطبقة الوسطى صانعة التحوّلات تماماً.
ليبيا إلى أين؟
تُواجه ليبيا تحديّاتٍ متداخلة تُهدِّد استقرارَها ووحدتَها. تفكُّك المؤسّسات وتعدُّد الفاعلين والاعتماد على الاقتصاد الريعيّ والتدخّلات الخارجيّة هي كلّها عوامل تُعيق بناء الدولة وتزيد من احتمالات استمرار الصراع. وعلى الرّغم من تعقيد الوضع، من الضروري تجنُّب الاختزال المُخِلّ الذي يُصوّر ليبيا على أنّها مجرّد «فوضى»، فالوضع معقّد ويتطلّب فهْماً دقيقاً للديناميّات المُتفاعلة التي تُشكّله.
إنّ أيّ مقاربة فعّالة لحلّ الأزمة اللّيبيّة يجب أن تكون شاملة ومتكاملة تُعالِج جذور المشكلة وليس أعراضها. يكمن الحلّ في الاتّفاق على المبادئ والقيَم التي تحكم الدولة الجديدة من دون أيّ إقصاء؛ وهذا يتطلّب إعادة بناء شرعيّة الدولة بالحدّ من التدخّلات الخارجيّة وتعزيز المُصالَحة الوطنيّة وصيانة النسيج الاجتماعي. ولا خيار سوى إعادة الأمر للّيبيّين أنفسهم الذين يجب استفتاؤهم على مصير بلادهم الذي هو النهاية رهْن قدرتهم على تجاوُز انقساماتهم، كما حدثَ قُبيل الاستقلال في العام 1951. بناء الدولة ليس مجرّد عمليّة تقنيّة لإنشاء مؤسّسات، بل هو مشروع سياسي واجتماعي يتطلَّب توافقاً وطنيّاً حول هويّة الدولة وطبيعة نظام الحُكم وآليّات توزيع السلطة والثروة. هذا التوافُق لا يمكن فَرْضه من الخارج، بل يجب أن يَنبع من حوارٍ وطني شامل يَضمن مُشارَكة جميع مكوّنات المجتمع اللّيبي في رسْم مستقبل بلادها.
* كاتب وأستاذ جامعي من ليبيا
(يُنشر هذا المقال بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسّسة الفكر العربيّ)