اخبار لبنان

جريدة اللواء

ثقافة وفن

التجريد البصري كوسيلة لاستكشاف الفجوات في المجتمعات الحديثة

التجريد البصري كوسيلة لاستكشاف الفجوات في المجتمعات الحديثة

klyoum.com

تعتبر الفنانة التشكيلية كيلي جينكينز (Kelly Jenkins) من أبرز الأسماء التي استطاعت أن تمزج بين الفن التجريدي والهندسة المعمارية لتقديم رؤية فنية فريدة تلامس القضايا الاجتماعية والبيئية في المجتمعات الحديثة. من خلال أعمالها، التي تجمع بين التجريد الهندسي المطموس أحيانا والفن التجريدي بمعناه الحر، تفتح جينكينز نافذة جديدة لفهم التحديات التي تواجهها المناطق العشوائية والمجتمعات المهمّشة في عصرنا المعاصر. تُظهر أعمالها كيف أن هذه المجتمعات تتأثر بالفجوات الهيكلية والاجتماعية التي تخلقها الظروف الاقتصادية والسياسية، مستخدمةً الهندسة والفن كأدوات لفحص هذه الظواهر وتسليط الضوء على نقاط التوتر في بنية المجتمع. فهل التجريد الهندسي البصري فن في مواجهة الفجوات الاجتماعية؟

تتميّز أعمال كيلي جينكينز باستخدامها للهياكل الهندسية التي تجمع بين الأشكال البسيطة والمعقّدة، مما يتيح لها توظيف الفن التجريدي كأداة لتحليل وإظهار التفاوتات في المجتمعات الحديثة. من خلال تركيبات هندسية تدمج الخطوط المستقيمة والمنحنية، تتساءل جينكينز عن الفجوات التي تظهر في تلك المجتمعات - الفجوات التي تكون في الغالب غير مرئية للعين المجرّدة. عبر استخدام الأشكال الهندسية، التي تُعدّ جزءاً من مفردات الفن المعاصر، تقوم بتفسير وتوضيح تلك الفجوات الاجتماعية، سواء كانت على مستوى الطبقات الاجتماعية، أو التفاوت في الفرص، أو حتى التحديات البيئية التي تواكب الحياة في المناطق العشوائية.

فالتجريدات الهندسية التي تستخدمها جينكينز لا تقتصر على كونها مجرد زخارف أو عناصر بصرية، بل هي بمثابة تمثيل مرئي لتلك الفجوات. في بعض أعمالها، تُستخدم الأشكال المستقيمة لتمثيل النظام والترتيب، بينما يتم دمجها مع الأشكال المعوجة والمفتوحة للإشارة إلى التحديات والاضطرابات التي تعاني منها المجتمعات المهمّشة. هذه التركيبة بين التجريد الهندسي والنمط التجريدي تعكس التوترات بين النظام والفوضى في الحياة اليومية للأفراد في هذه المجتمعات. فهل الفن التجريدي هو التعبير عن الحياة العشوائية؟

استخدمت كيلي جينكينز الفن التجريدي كوسيلة للتعبير عن الحياة في المناطق العشوائية والمهمّشة التي تسودها الفوضى والازدحام. في العديد من أعمالها، يتم تجريد العناصر الإنسانية والعمرانية إلى أشكال هندسية بسيطة، مما يعكس ببراعة البُعد الفوضوي والتشوّش الذي يميّز تلك المناطق. هذه المساحات المزدحمة والمكتظة التي تعيش فيها العائلات في الأحياء الفقيرة أو المخيمات العشوائية تصبح في أعمال جينكينز أشكالاً هندسية مجرّدة، مما يترك انطباعاً أن هذه البيئة قد أصبحت تكتلاً غير قابل للفصل بين أجزائه.

الفن التجريدي في أعمالها لا يقدّم تفاصيل مفرطة عن الحياة اليومية للأفراد، بل يعكس الجوهر العاطفي والمعنوي لتجربة العيش في هذه الأماكن. فهي تبتعد عن الواقعية التي قد تحدد تفاصيل المعاناة بشكل صريح، ولكنها تخلق شعوراً قوياً بالواقع من خلال الألوان والأشكال الهندسية التي تتداخل مع بعضها البعض. هذا الأسلوب التجريدي يتيح للجمهور أن يتفاعل مع العمل من خلال مشاعرهم الخاصة، بدلاً من أن يتم استدعاء ردود فعل مباشرة وواقعية.

أحد الجوانب البارزة في أعمال كيلي جينكينز هو استخدامها رموز الهندسة المعمارية في التجريد كرمز للقيود الاجتماعية. في كثير من أعمالها، تتمكّن الفنانة من التقاط جوهر الحياة في المجتمعات المهمشة من خلال بنية المكان نفسها - الأزقة الضيقة، والبيوت المتراصة جنباً إلى جنب، والأحياء المحاطة بأسوار من الصلب والخرسانة. هذه الهياكل المعمارية التي قد يراها البعض رموزاً للنظام والهيكل، تصبح بالنسبة لجينكينز تمثيلاً للتحديات الاجتماعية التي تحدّ من حرية الأفراد وتقلّص فرصهم.

إنها لا تكتفي بعرض هذه التجريدات بمظهر ثابت، بل تُظهر كيف أن هذه الأماكن يمكن أن تكون بمثابة سجون غير مرئية للأفراد. من خلال العمل على التشويه أو إعادة تفسير الأشكال، تعكس جينكينز كيف أن هذه القيود المعمارية تؤثر على الحياة الإنسانية في تلك المجتمعات. استخدام الأشكال في التجريد كاستبطان في هذه الحالة لا يقتصر على الجانب الجمالي، بل يضيف بُعداً فلسفياً يتناول تأثير هذه البيئات على هوية الأفراد وحقوقهم في حياة أفضل.

في قلب أعمال كيلي جينكينز يكمن الهدف الأسمى: استخدام الفن كوسيلة للتوعية والتغيير الاجتماعي. من خلال تسليط الضوء على الفجوات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة، تأمل جينكينز أن تساهم في تحفيز النقاش حول كيفية التعامل مع هذه الفجوات. هل يمكن تغيير البنية لهذه الأماكن؟ هل يمكن للمدن أن تصبح أكثر شمولية وتوافراً للفرص لكل الأفراد؟

الفن بالنسبة لجينكينز هو دعوة للنظر بعمق في البيئة المحيطة بالأفراد، والتفكير في كيفية تحسينها لتوفير حياة أفضل. أعمالها تتجاوز كونه مجرد عرض جمالي، بل هي مشروع للتفكير والتأمّل في الحلول الممكنة للتحديات التي يواجهها سكان المناطق العشوائية. من خلال الفن التجريدي، تقدم جينكينز رؤية مبتكرة حول كيف يمكن لمجتمعاتنا أن تتجاوز التحديات الهيكلية والاجتماعية.

تمثل أعمال جينكينز قمة الفن الذي يستخدم الفن التجريدي ليس فقط لإعادة تفسير العالم، ولكن أيضاً للتأمّل في القضايا الاجتماعية التي تؤثر على حياتنا اليومية. من خلال الفن الذي ينطوي على دلالات اجتماعية عميقة، تسلّط جينكينز الضوء على جماليات مخفية في المجتمعات الحضرية، وخاصة تلك الموجودة في المناطق العشوائية. تقدم جينكينز للفن دوراً مهماً في طرح أسئلة عن التفاوت الاجتماعي وتحديات البيئة الحضرية، مما يجعل أعمالها أكثر من مجرد تمثيل جمالي - بل هي دعوة قوية للتغيير والتحسين الاجتماعي.

*المصدر: جريدة اللواء | aliwaa.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة