اخبار لبنان

جريدة اللواء

ثقافة وفن

تأمّلات وتوصيات في أخلاقيات التراث ومفهومه (1/2)

تأمّلات وتوصيات في أخلاقيات التراث ومفهومه (1/2)

klyoum.com

النظرية بدون تطبيق فارغة، والتطبيق بدون نظرية عمىً (إيمانويل كانت).

تطوّر مفهوم التراث وأخلاقياته بشكل ملحوظ على مرِّ القرون، متأثّراً بمختلف وجهات النظر التاريخية والفلسفية. ومنذ القدم، ساهم المفكرون في فهمنا للتراث، مُبرزين طبيعته المعقّدة ومتعددة الأوجه. ومع استمرارنا في استكشاف تعقيدات التراث، من الضروري إدراك دور ديناميكيات السلطة والتنوّع الثقافي والسياق التاريخي في تشكيل فهمنا للماضي، وتأثيرها على أخلاقيات التراث.

إن التراث جزء من مكونات الواقع فهو حقيقة مخزونة لدى الجماهير تحدّد سلوك الناس في الحياة اليومية، فالماضي والحاضر كلاهما مغروسان في الشعور، وتحليل أخلاقيات وجوهر التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوّقاتها. فالتراث يستلزم التجديد الدائم كونهما يؤسسان معاً علماً جديداً هو وصف الحاضر كأنه ماضٍ يتحرك، ووصف الماضي على أنه حاضر مُعاش. وما دام التراث يشير إلى الماضي والتجديد يشير إلى الحاضر، فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان وربط الماضي بالحاضر وإيجاد وحدة التاريخ. وعليه، فعند الحديث عن التراث فهذا يعني ربطه بالواقع ومستوياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، وذلك بعد صياغته من أجل إنشاء تراث جديد في الواقع، وبناء علاقة صحيحة مع الآخر بإمكانها السير نحو الإبداع الذاتي.

يتفق معظم الباحثين في موضوع التراث أنه يمثل في المجتمع نمط الحياة في الفلسفة والدين والفن والعمارة ومختلف الأعمال اليومية، فهو بمثابة طاقة نفسية واجتماعية مشحونة داخل الوجدان الفردي والوعي الاجتماعي غالياً ما تتبلور إلى حركة نهضوية فكرية وعلمية واقتصادية وسياسية تبني حضارة وتحرّك التاريخ، وعليه يعتبر التراث وسيلة لتفسير الواقع، فهو نظرية للعمل وموجّه للسلوك وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، وهما حجرا العثرة اللتان تتحطم عليها كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية.

ظهور التراث كمفهوم:

تطوّر مفهوم التراث تطوّراً ملحوظاً على مرِّ القرون، متأثّراً بمختلف الرؤى الفلسفية والتاريخية. فخلال عصر النهضة على سبيل المثال، وبعد عقود طويلة من الظلمة والتخلّف في أوروبا، بدأ المفكرون في التأكيد على أهمية التراث الثقافي والتاريخي، وشهدت هذه الفترة تحوّلاً كبيراً في نظرة الناس إلى ماضيهم وأهميته لحاضرهم ومستقبلهم فبرز مفهوم التراث كوسيلة للتواصل مع الماضي والحفاظ على الهوية الثقافية. ولعب التراث دوراً حاسماً في تشكيل الهوية الوطنية خلال ذلك العصر. ومع نشوء الأمم، أصبح التراث الثقافي قوةً موحّدة، عززت الشعور بالهوية المشتركة والانتماء بين المواطنين. كما ساهم الحفاظ على القطع الأثرية الثقافية والمواقع التاريخية والممارسات التقليدية في خلق شعور بالاستمرارية مع الماضي، مما عزز الإنتماء الوطني. ويُعتبر جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau ويوهان غوتفريد هيردر Johann Gottfried Herder من أهم المفكرين الذين تناولوا مفهوم التراث وأخلاقياته حيث وضعا الأساس لتطوير التراث كمفهوم، وأكّدا على أمور أساسية تتمثل في أهمية التراث الثقافي في تشكيل الهوية الوطنية، وضرورة الحفاظ على التنوّع الثقافي والتقاليد الشعبية. بعد ذلك تبعهما هيغل Georg Wilhelm Friedrich Hegel ورانكه Leopold von Ranke اللذان أشارا إلى أهمية السياق التاريخي في فهم التراث، وسلّطا الضوء على ضرورة البحث التاريخي الموضوعي. كما تناولت دراستيهما مساهمة عميقة في تطور الأحداث التاريخية وتأثيرها على التراث.

في منتصف القرن العشرين تحدّد المفهوم التقليدي للتراث، ولكن تصدّى لفكرة التراث الثابت والموضوعي مفكرون مثل ميشيل فوكو Michel Foucault وجاك دريدا Jacques Derrida مجادلين بأنه بناء اجتماعي يخضع لتفسيرات متعددة وديناميكيات قوة. فسلّطت أعمال فوكو حول السلطة والمعرفة الضوء على الطرق التي يُبنى بها التراث ويتلاعب به أصحاب السلطة. أما مفهوم دريدا للتفكيك، فقد تحدّى فكرة التراث الثابت والجوهري، كاشفاً عن تعقيدات وفوارق التفسير التاريخي. فكان من أهم مساهماتهما: تسليط الضوء على دور ديناميكيات السلطة في تشكيل التراث، والتأكيد على تعقيد ودقة التفسير التاريخي، وآثار ما بعد الحداثة على التراث والفهم التاريخي.

إن الاهتمام بالتراث العالمي لا يخلق شعوراً بالهوية الاجتماعية فحسب، بل يضع أيضاً مسؤوليات إضافية على عاتق متخصصي التراث، الذين يتعيّن عليهم التعامل مع جمهور واسع ومتنوّع، وتحقيق التوازن بين احتياجات ومصالح مختلف الجهات المعنية، ودمج الاستخدامات المعاصرة للموقع مع مراعاة أهميته وأصالته. هذا، بالإضافة إلى أن البيئة المتغيّرة باستمرار التي تعمل فيها مواقع التراث، تزيد من الحاجة إلى الحفاظ على معايير أخلاقية عالية في مهنة التراث.

يُنظر إلى الأخلاقيات كفرع من فروع الفلسفة التي تُعنى بالسلوك البشري والحياة الكريمة، وفي المتاحف ومواقع التراث بنظرة تقليدية على أنها قياس للقيم على المستويين الشخصي والمهني، ولتحديد مجموعة من المبادئ التوجيهية لسلوك العاملين في مجال التراث. في الوقت نفسه، يُشير أكثر الباحثين إلى أهميتها أيضاً في عملية صنع القرار. ولكي نكون واقعيين، يبدو واضحاً أن المجتمعات المعاصرة متعددة الثقافات، في ظل دورات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، تواجه مشكلةً جسيمةً في إدارة وجودها وهويتها المتميزة، كما يتجلى ذلك في تراثها. ويبدو أن قيم وأخلاقيات التراث المحلي، الملموسة وغير الملموسة، تتعارض مع القيم العالمية للتقدّم والتنمية.

في مواجهة هذه المشكلات، بُذلت جهودٌ لزيادة المساهمة الاقتصادية والاجتماعية للتراث في التنمية الاجتماعية من خلال الاعتراف بعدد متزايد من أصحاب المصلحة والمجموعات الثقافية ومعالمها الأثرية وتسهيل وصولهم إليها، ولكن ذلك لم يُسفر إلّا عن جعل مشكلة الحفاظ على التراث أمراً مستحيلاً نظراً لاتساعها وتعدّدها، ويرجع ذلك أساساً إلى تناقض الأخلاقيات بين الحفاظ على التراث والتنمية الاجتماعية والثقافية. لذلك، يجب النظر إلى التراث ليس كجانب ثانوي من القيم الاجتماعية، بل كنموذج شامل لأسلوب حياة مستدام من حيث إعادة استخدام المباني، والاستجابة للبيئة الطبيعية، وإعادة تعريف القيم الإنسانية. ولتحقيق هذه الغاية، لا بد من التركيز على سيادة أخلاقيات التراث. من هذا المنطلق، ينبغي إعادة النظر في قيم التراث من حيث معانيها. فإذا كنا نقدّر التراث، فعلينا الحفاظ عليه كما هو - لا لغرض آخر من أجل قيمة أخرى. وبمصطلحات أرسطو، فإن قيمة التراث غاية في حد ذاتها وليست وسيلة لتحقيق غاية أخرى - سواء كانت التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية. فالتراث قيمة اجتماعية بكونه تراثاً، وبكونه في إطار وحدود ذاته، وهنا تكمن قدرته على رصد التنمية الاجتماعية وحل المشكلات الاجتماعية. وبهذا المعنى، فإن التراث ليس مجرد محرك آخر محتمل للتنمية، بل هو الأساس والحصن والمرسى لأي محرك للتنمية.

إن اتساع نطاق التراث الزمني والتركيز على أهميته الاجتماعية يُشكل حصناً لهويتنا ويتحول تدريجياً إلى واقع نموذجي بثلاث طرق: من خلال كونه عملياً، ومن خلال كونه جزءاً منا، ومن خلال تواجده في مفاصل حياتنا. لقد أصبح واضحاً أكثر من أي وقت مضى أن التراث هو ما نملكه لمواجهة المستقبل الذي يبدو غامضاً وغير مؤكّد وغير واعد. وعليه، فإن الحفاظ على التراث ليس انسحاباً محافظاً من رسم ملامح المستقبل، بل هو أخلاقيات وإيمان راسخ بالإنجازات النموذجية السابقة كنقطة انطلاق نحو المستقبل. من هذا المنطلق، ومن خلال تجربتي ومشاهداتي للتجاوزات التي رافقت الأوضاع الميدانية للتراث في لبنان، وخاصة في العاصمة بيروت، والعجائب والغرائب التي نراها على معظم مواقع التواصل الإجتماعي، سأخصص القسم الثاني من هذه الدراسة لتوصيات أراها ضرورية للحفاظ على ما تبقّى من موروثنا المادي، علّها تجد آذاناً صاغية ونوايا صافية.

-----------------

* صيدلي وباحث في التراث الثقافي

*المصدر: جريدة اللواء | aliwaa.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة