اخبار لبنان

الهديل

سياسة

خاص الهديل: جنوبٌ يتحدّث الآخرون باسمه… ويدفع وحده الثمن

خاص الهديل: جنوبٌ يتحدّث الآخرون باسمه… ويدفع وحده الثمن

klyoum.com

خاص الهديل…

كهرمان…

فجر 28 تشرين الثاني لم يكن يوماً عادياً في بيت جن السورية. هناك، عند سفوح جبل الشيخ، يبدأ الصباح عادة برائحة الحطب والندى، لا بأزيز مروحيات ولا دخان قذائف. لكن ذلك الفجر بدا وكأنه مكتوب بلغة أخرى، لغة تُكتب في غرف عمليات بعيدة، لا في دفاتر أهل القرية.

استيقظ الناس على خبر دخول قوة إسرائيلية إلى البلدة. يقول أحد أبناء بيت جن إنهم لم يسمعوا صوت الجنود أولاً، بل سمعوا صراخ الجيران حين أدركوا أن الطريق المؤدي إلى بساتينهم يمتلئ بجنود مدججين بالسلاح. ما قيل لاحقاً عن اشتباك وجرحى وآلية طُوّقت، بدا في لحظته الأولى أقرب إلى مشهد مألوف في زمن صار الاحتلال خلاله يدخل ويخرج كأنه يمرّ في بيته.

لكن ما حدث لم يكن مجرد دخول. كان اختباراً جديداً لبلدة وجنوبٍ يعيشان منذ سقوط نظام الأسد تحت ثقل واقع لا يعرف أحد من رسمه.

لم يعد الجنوب السوري ذلك الهامش المنسي القائم على زراعة التفاح والكرز. صار مساحة تتنقل فوقها جماعات جديدة، تتحدث بلغة أكبر بكثير من مساحة القرية، وتَعِد بالرد على إسرائيل “في الزمان والمكان المناسبين”.!!

قبل أشهر، لم يكن أحد في بيت جن يعرف الكثير عن جماعة أطلقت على نفسها “أولي البأس”. ظهرت فجأة، مثل ظلّ يُمدّ فوق الجغرافيا شيئاً فشيئاً. أسماء وشعارات، تسجيلات صوتية، وبيانات تتحدث عن تحرير سوريا وفلسطين دفعة واحدة. كل ذلك فيما القرية نفسها لا تعرف إن كانت ستنجو من قصفٍ جديد أو توغّل آخر.

ليس جديداً أن ينهض لاعب عقائدي فوق أرض رخوة. الجديد أن هذا اللاعب يقدّم نفسه بديلاً عن الدولة. يتحدث عن الرد، عن ضرب “العمق”، وعن تحريرٍ شامل، بينما لا يملك قدرة حماية بيت واحد من السقوط على رؤوس من فيه.

ولكن وماذا عن الاحتلال؟

الاحتلال، كما يعرف أهل الجبل، لا يحتاج إلى تبرير كي يدخل. لكنه يجد اليوم عشرات المبررات. أي حركة، أي مجموعة، أي تسجيل صوتي يمكن أن يتحوّل إلى ذريعة لطلعة جوية جديدة، أو لتوغّلٍ آخر شبيه بما حدث فجر الجمعة.

الطائرات التي حلّقت فوق بيت جن لم تكن تبحث عن “أولي البأس” فقط، بل كانت تقرأ المشهد كله: دولة متعبة، قرى مُنهكة، وجماعات مسلحة تتكاثر بلا ضوابط. وما دام الداخل هشاً، فالخارج مطمئن إلى أن لا أحد سيمنعه.

بيت جن اليوم تقع تماماً في منتصف طريقٍ لم تختر السير فيه. هي ليست جبهة مواجهة تختار التوقيت، ولا منطقة آمنة تستطيع إدارة يومها. إنها مساحة عالقة بين احتلالٍ يمدّ يده بلا خوف، وجماعات ترى في القرية منصة لردودٍ كبرى، بينما لا تفكر لحظة في ثمن تلك الردود على أهل المكان.

في ذلك الفجر، حين سقطت الغارة على البيت الذي نامت فيه عائلة كاملة، لم تُفرّق النار بين المسؤول الحقيقي عمّا يجري والمسؤول المُدّعى. النار لم تسأل عن الشعارات، ولا عن بيانات الإدانة، ولا عن تسجيلات التهديد. كانت الفاتورة واحدة: دم على الأرض، وأطفال يستيقظون بلا أب أو أم.

نعم، الهجوم الإسرائيلي جريمة حرب. هذا لا نقاش فيه. لكن السيادة ليست جملة تُكتب على لافتة. السيادة مسؤولية عن الناس قبل الأرض. مسؤولية عن حياة قرى لا تريد أن تُستدرج إلى مطامح لا تشبهها، ولا إلى حروب تُصنع في أماكن لا ترى وجوه أبنائها.

أهل بيت جن لا يرفضون مواجهة الاحتلال، لكنهم يعرفون أن المقاومة الحقيقية ليست ما يُقال في تسجيل صوتي، ولا ما يُعلن من “تحرير شامل” على صفحات الإنترنت. المقاومة التي يعرفونها هي تلك التي تحمي بيوتهم، لا تلك التي تعرضها للخطر. هي التي تفعل، لا التي تتوعّد.

ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن ما جرى في بيت جن ليس معركة بين جيش وجماعة. إنه نتيجة غياب دولة، ونتيجة امتلاء الفراغ بكل من أراد أن يضع شعاراً فوق بندقية. وفي هذا الغياب، لا أحد يربح. إسرائيل تُوسّع حدود قوتها، والجماعات تكسب حضوراً إعلامياً، أما أهل الجنوب فيخسرون يوماً جديداً من حياتهم الطبيعية.

ربما سيكتب التاريخ يوماً ما حدث في بيت جن كواحدة من لحظات الانزلاق نحو فوضى أكبر، أو ربما كجرس إنذار. لكن ما يعرفه أهل القرية اليوم هو شيء واحد فقط: أنهم يريدون صباحاً يعود فيه صوت الحطب يغلب صوت الطائرة، وصوت العصافير يغلب بيانات الحرب.

وذلك، وحده، لا يأتي إلا حين تعود الدولة لتكون دولة… لا اسماً يُذكر في بيان إدانة.

*المصدر: الهديل | alhadeel.net
اخبار لبنان على مدار الساعة