الشرفة البيروتية: ذاكرة مدينة تطلّ على نفسها
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
نقابة الأطباء: اللقاح يساعد في حمايتك وحماية من حولكومن شرفاتك يا بيروت، يطلّ البحر كالعاشق، يمدّ ذراعيه نحوك (سعيد عقل).
ليست الشرفة في عمارة بيروت القديمة مجرّد مساحة تُطلّ على الشارع، بل جزء من وجدان المدينة وذاكرتها الحيّة. فهي التي جمعت بين الحياء والانفتاح، بين الجمال والوظيفة، وبين البيت والشارع في وحدةٍ إنسانية فريدة. ومن خلالها يمكن أن نقرأ تاريخ بيروت الاجتماعي كما نقرأ طرازها المعماري. ولها مكانتها المحببة في أدب الشعوب، مثل مشهد الشرفة في «روميو وجولييت» لشكسبير، كرمز للحب المستحيل والبوح الخفي، وما كتبه مارسيل بروست في البحث عن الزمن الضائع حين يصف شرفة طفولته كمكان يعيد من خلاله الزمن والحنين.
في بيوت بيروت الحجرية، كانت الشرفة نافذةً للحياة اليومية، تفتحها العائلة صباحاً لتستقبل البحر والضوء، وتجلس عندها مساءً تستمع إلى أخبار الجيران وصوت المؤذن. كانت الهواء الذي يتنفّسه البيت، والعين التي تطلّ على المدينة وتشاركها نبضها. ومنها تُروى القصص، وتُنسج العلاقات، وتُبنى صورة المدينة التي لا تعرف الانعزال، وتُلهم قريحة الشعراء والأدباء. فمن شرفات الفنادق القديمة في منطقة ميناء الحصن كتب الرحّالة في مدوناتهم مشاهداتهم في وصف موقع وطبيعة بيروت الخلّاب، ومن شرفات الفنادق القديمة المحاذية لأسواق المدينة، وصفوا عادات وتقاليد وأزياء المارة وسلوكيات التجّار. كتب الروائي الفرنسي ادوار بلونديل سنة 1838: « هذا هو المكان الأكثر حيوية في المدينة، الذي يذكّرك بالفانوس السحري حيث يتغيّر المشهد طوال الوقت. لا يمكن للمرء أن يجد وجهة نظر أفضل لدراسة الأنواع المادية والأزياء المتنوعة للبلاد. الكهنة والدراويش والبدو من الصحراء والفلاحون من جبل لبنان والدروز والمصريون والنساء السود والعبيد على اختلاف أنواعهم، كلهم يأتون ويذهبون، يزدحمون ويتدافعون من كل اتجاه... المحلات التجارية الوحيدة ذات الأهمية هي متاجر تجار الحرير الذين يبيعون السلع المحلية».
ملامحها المعمارية
تميّزت الشرفات البيروتية بطابعٍ يجمع بين الأناقة العثمانية والذوق المتوسّطي: فقد صُنعت النماذج المبكرة (منتصف القرن التاسع عشر) من الحجر الجيري المنحوت أو لوحات خشبية، ثم استُبدلت لاحقاً بدرابزين من الحديد الزهر والحديد المطاوع مستورد من أوروبا (خاصةً إيطاليا وفرنسا) وكانت هذه الدرابزين مشغولة يدويّاً ومزيّنة بزخارف نباتية رشيقة، اتسمت بالدقّة والزخرفة بزخارف عربية وتجعيدات زهرية وتناسق هندسي غالباً ما كان يُطلى باللون الأخضر الداكن أو الأسود.
ولكن أكثر ما كان يميّز شرفات المباني والمنازل التراثية وجود قناطر ثلاث لا تزال صامدة إلى يومنا هذا تتوّج الواجهة كابتسامةٍ من حجر، كما كانت المظلّات الخشبية والمشربيات تمنحها ظلًّا وخصوصية، في توازنٍ بين الجمال والحياء الشرقي. ويلاحظ أن المشربيات كانت أقل شيوعاً في بيروت عنها في طرابلس وصيدا على سبيل المثال، ولكنها ظهرت في أحياء المدينة ذات التأثير العثماني. كما كانت إطارات النوافذ المفتوحة على الشرفات مزوّدة بعوارض زجاجية ملونة وعتبات منحوتة. أما الأرضيات فكانت غالباً من ألواح حجرية أو ألواح خشبية مدعومة بأعمدة منحوتة. ومنذ عشرينيات القرن العشرين فصاعداً، أتاحت الخرسانة المسلحة إطلالات أكثر جرأة. يقول الدكتور لويس لورته في رحلته الشهيرة «مشاهدات من لبنان» عن بيوت بيروت سنة 1880: «والبيوت الجديدة تكاد تكون كلها مبنية على نسق واحد: طبقة سفلى تحتوي على مرابط الخيول، ومخازن المؤن، وغيرها. ثم يرتفع سلّم واسع من الرخام الأبيض، يقود إلى الصحن الكبير المتوسط، ويخترق المنزل من مكان إلى آخر، وقد فتحت فيه نوافذ واسعة قوطية الطراز تطلّ من الشمال على البحر، ومن الجنوب على لبنان. وفي طرفي المنزل عواميد تحمل سقفاً عالياً، وترتفع حتى السطوح. وامامه شرفة أنيقة يتنسم عليها أصحابه الهواء الرطب الآتي من الشاطئ».
هذه التفاصيل لم تكن ترفاً معمارياً، بل تعبيراً عن الذوق البيروتي الذي يقدّر النور والهواء، ويؤمن بأن الجمال جزء من الراحة اليومية. وكانت الشرفات جزءاً لا يتجزأ من التصميم، وليست إضافات لاحقة كما شكّلت إسقاطاً إيقاعياً على الواجهة - لا سيما في المنازل ذات النوافذ ثلاثية الأقواس (ثلاثية القناطر) المطلة على البحر أو الحديقة، واصطفت العديد من الشرفات مع الصالون المركزي أو الليوان، رمزاً للانفتاح وكرم الضيافة.
البُعد الاجتماعي
الشرفة في الذاكرة الإجتماعية البيروتية ليست مجرّد عنصر معماري، بل رمز إنساني وشاعري ارتبط بالحنين والمراقبة والحب والانتظار والذكريات. وفي تلك الشرفات وُلدت الحياة الاجتماعية للمدينة. كانت الجارة تُنادي جارتها من عبر الشارع، وتُقدَّم القهوة من شرفةٍ إلى أخرى، وتُزيَّن الدرابزينات بأصص الريحان والياسمين. لقد كانت الشرفة مسرحاً صغيراً للمدينة حيث تُلقى التحايا وتُشاهد المواكب وتُسمع ضحكات الأطفال ويُرى البحر عند المغيب. ويلاحظ أن العديد من الشرفات كانت تصطف مع الصالون المركزي أو الليوان، كرمزٍ للانفتاح وكرم الضيافة.
حين صمتت الشرفات
مع تغيّر العمران ودخول الأبراج الزجاجية، خسرت بيروت شرفاتها المفتوحة التي كانت تربط الإنسان بالهواء والجار والشارع، وتحوّلت الواجهة إلى جدارٍ صامت، وفَقدَ البيت لسانه الذي كان يخاطب به المدينة. ومما زاد في الطين بلّة القيام بإقفال الشرفات بالزجاج لزيادة مساحة البيت واستغلال المساحة الكليّة للمسكن، خاصةً بعد أن شرّع قانون البناء رقم 646 تاريخ 11/12/2004 إغلاق الشرفات بكافة أنواع الألواح الزجاجية الشفافة المتحركة بما فيها تلك المزودة بإطارات من الألمنيوم الملوّن وبالتالي أصبحت مساحات هذه الشرفات مهيّأة لتكون من ضمن المساحات المستعملة أو المستثمرة للوحدات العقارية. يقول المهندس المعماري مازن حيدر في مقالة له: «من مساحة خارجية ضرورية للمسكن إلى حيزٍ مهملٍ تنتهشه المساحات الداخلية، تعكس شرفات الأبنية اليوم ممارسات السكّان المتنوعة بل المتناقضة في ما بينها والتي تزيد من تعقيد المشهد العام في المدن اللبنانية الكبرى. فإذا كنّا في معظم الأحيان نردّ النزعة إلى الإغلاق إلى الطابع العدائي الذي يطغى على البيئة الخارجيّة، فإن هذا الخيار يدلّ أيضاً على تقوقع في الثقافة الحضرية اليوم التي تُنتج رفضاً مستمراً للآخرين. ويبقى التوازن السليم في تحليل الفرضيّتين حاسماً للوصول إلى فهم صحيح لهذه الظاهرة» (العدد 60 - حزيران 2019، من مجلة «المفكرة القانونية»).
لكنّ الذاكرة البيروتية ما زالت تحفظ المشهد: سيدة تسقي الغصن الأخضر، وطفل يلوّح لعابرٍ في الزقاق، ومدينةٌ تُطلّ على نفسها من خلال نوافذها الحجرية القديمة. فالشرفة البيروتية ليست تفصيلاً معمارياً عابراً، بل رمز حضارةٍ مدينية راقية، شهدت على أسلوب عيشٍ فيه جمالٌ وحياءٌ وإنسانية. وصون هذه الشرفات اليوم هو حماية للروح البيروتية التي لم تزل، رغم كل التغيّرات، تتنفّس من حجارة الماضي وعطر حَبق شرفاتها الجميلة.
هنا كانت الشرفات تنبض بالحياة، والناس أقرب إلى بعضهم من ظلّهم، ثم أُغلِقت النوافذ، وتهدّمت الجدران، لكنّ الشرفات بقيت في الذاكرة، تلوّح لنا كأجنحةٍ من زمنٍ أجمل.
(*) باحث في التراث الثقافي/ رئيس جمعية تراثنا بيروت سابقاً