مشروع قانون استقلالية القضاء العدليّ: استقلالية منقوصة والمحاكم العسكرية شاهد على ذلك
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
الصحة العالمية ستدعم استخدام عقاقير إنقاص الوزن عالمياأقَرَّ مجلس الوزراء، خلال جلسته المنعقدة بتاريخ الثالث من أيار، مشروع قانون استقلالية القضاء العدليّ. وهو خطوة أولى في سياق تعزيز استقلاليّة السّلطة القضائيّة في لبنان وإعادة بناء ثقة المجتمعَيْن المحليّ والدوليّ بمؤسسة العدالة في البلاد، وفقاً لتوصيات التقارير الصادرة عن لجنة البندقية التابعة لمجلس أوروبا ومنتدى العدالة اللبناني.
وعلى الرغم من الضجة الإعلامية المثارة حول هذا الموضوع والتي اعتبرت المشروع إنجازاً تاريخيّاً في ما خص ضمان استقلالية القضاء التامة عن السلطة التنفيذية والسياسية، وعدم تدخل هذه السلطة في التشكيلات والتعيينات القضائية، وتعزيز فعالية هذا القضاء من حيث السرعة في إصدار الأحكام وتأمين العدالة للمواطنين، وبعد تفحّص أولي لنص هذا المشروع ستتبعه لاحقاً دراسة معمّقة لنصوصه، يبدو أن النتيجة ليست على قدر الآمال المعقودة ولا بحجم الدعاية الإعلامية المفتعلة. فمن حيث الشكل، لا يَعتبر المشروع القضاء سلطة قضائية قائمة بحد ذاتها في موازاة السلطات الأخرى، وإنما وظيفة كباقي الوظائف، فهو استبعد تحديداً عبارة سلطة قضائيّة خلافاً لأحكام المادة 20 من الدستور، ولم يذكرها في عنوان القانون أو في أي مادة من مواده، واستعاض عنها بعبارة السلك القضائي والوظيفة القضائيّة، ما يشكّل مخالفة واضحة لأحكام الدستور ولقرار المجلس الدستوري رقم 23/2019.
ملاحظات النص
أما من حيث الموضوع، فإن نص مشروع القانون يبقي سلطة وزير العدل على النيابات العامة ولا يلغيها، مما يعني أن بوسع السلطة التنفيذية التدخل مباشرة في شأن تسيير الدعوى العامة والملاحقات الجزائية عبر وزير العدل، الذي يمكنه، وفقاً لأحكام المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، أن يطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي تصل إلى علمه، كما لهذا الأخير الذي تعيّنه السلطة التنفيذية الحق بإجراء التحقيق، إما مباشرة أو بواسطة معاونيه من قضاة النيابة العامة الملحقين به، أو من أفراد الضابطة العدلية التابعين له، مما يؤثر سلباً على استقلالية قضاة النيابات العامة ويتيح للسلطة السياسية تسيير الملاحقات الاعتباطية والانتقامية عند الاقتضاء، كما كان يحصل سابقاً. يضاف إلى ذلك أن نص مشروع القانون المقترح يُبقي على صلاحية مجلس الوزراء بتعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى والنائب العام التمييزي ورئيس التفتيش القضائي، وهذا يعني أن المراكز القضائية الأساسية تبقى في يد السلطة التنفيذية التي يمكنها، والحالة هذه، التدخل في شؤون القضاء والحد من استقلاليته، فيما كان المطلوب تحرير كل المراكز القضائية من سطوة وتدخل السلطة التنفيذية دون أي استثناء، أي الغاء كل سلطة تعيين ممنوحة لمجلس الوزراء. ويذكر أيضاً أنه كان من المفترض أن ينص المشروع على آلية للتشكيلات القضائيّة قائمة على معايير موضوعية وشفافة تُراعي النزاهة والمؤهلات والكفاءة، لكن النص الذي تم إقراره تضمن آليات وأصولاً معقّدة لإجراء التشكيلات القضائية، ووضع شروطاً تعجيزية على كيفية تشكيلها، مما قد يؤدي إلى عدم مراعاة المعايير المقترحة وإلى نسف الضمانات الدنيا المنصوص عليها. ويشار على هذا الصعيد إلى أن المشروع أبقى على صدور التشكيلات القضائية بموجب مرسوم بناءً على اقتراح وزير العدل، وعلّق نفاذها إذا لم تصدر بمرسوم، على ورود المشروع إلى ديوان وزارة العدل خلال فترة شهر، الأمر الذي قد يؤدي إلى عرقلة نفاذ التشكيلات، في حال لم يُجز الديوان تسجيل الورود، في حين أن التشكيلات ينبغي أن تكون نافذة بمجرد صدورها عن مجلس القضاء الأعلى. أما في ما خص إنشاء هيئة التفتيش القضائي، فإن مشروع القانون يعتمد آلية تناقض تماماً مبدأ استقلالية السلطة القضائية، إذ نص على أن جميع أعضاء هذه الهيئة يتم تعيينهم من قبل السلطة التنفيذية. كما أبقى على صلاحية وزير العدل بتوقيف القاضي عن العمل، ما يناقض مبدأ استقلالية القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات.
يضاف إلى ذلك خصوصاً أن الأخطر في هذا المشروع هو أنه لا يلغي المحاكم الاستثنائية المناقضة للاتفاقيات الدولية المعنية بحماية حقوق الانسان، ولا صلاحية مجلس الوزراء بإحالة بعض القضايا الجنائية الخطرة على المجلس العدلي. ومن أسوأ هذه المحاكم الاستثنائية هي المحاكم العسكرية الدائمة التي تشكّل بوجودها واستمرارها انتهاكاً فاضحاً لحقوق الإنسان ولمبدأي فصل السلطات واستقلال السلطة القضائية الدستوريين، بالإضافة إلى استعمالها كأداة للتسلط والانتقام السياسيين من قبل السلطة الحاكمة وقوى الأمر الواقع المسلحة.
إلغاء "العسكري"
يذكر أن المحاكم العسكرية ألغيت منذ زمن بعيد في معظم البلدان الديمقراطية لا سيما في فرنسا، كونها تناقض بوجودها أبسط قواعد حقوق الانسان واستقلال القاضي وعدم تحيّزه وعدم خضوعه لأي سلطة تنفيذية أو سياسية أو عسكرية، بخاصة وأن إجراءات التحقيق والمحاكمة المعمول بها أمامها تحمل اعتداء على حقوق الدفاع وعلى مبدأ الطعن بالقرارات القضائية، وهي مبادئ أساسية أقرتها الاتفاقيات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الانسان.
أولاً: المحكمة العسكرية قضاء مخالف لأبسط قواعد حقوق الإنسان ويقتضي إلغاؤها
يخالف القضاء العسكري بتشكيله وإجراءاته كل الأصول القانونية العادية وحقوق الدفاع ومبادئ عدم التحيز والشفافية وتأمين محاكمة عادلة، وذلك للأسباب التالية:
• لا يجوز محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية
إن المشترع اللبناني، وبخلاف التشريعات الحديثة المعمول بها في فرنسا وفي البلدان الليبرالية التي تؤمن بضمان حقوق الإنسان، لا يمنح المحاكم العسكرية الدائمة فقط صلاحية ملاحقة ومحاكمة العسكريين والمدنيين الذين يرتكبون إحدى الجرائم ضد أشخاص عسكريين أو ضد مؤسسات عسكرية، وإنما أيضاً الأشخاص المدنيين الذين يرتكبون الجرائم التي نص عليها قانون العقوبات. كما أنه، إضافة إلى ذلك، يمنح المحاكم العسكرية اختصاص النظر في الجرائم التي يرتكبها العسكريون وإن كانت هذه الجرائم من الجرائم العادية، مما يشكّل خطراً على الحريات الشخصية وعلى ضمانات حقوق الإنسان في المحاكمات الجزائية، وخصوصاً حقوق الدفاع منها وقرينة البراءة، كون الإجراءات المعمول بها أمام المحاكم العسكرية لا توفّر الضمانات ذاتها المتوفرة في المحاكمات الجزائية الجارية أمام القضاء العادي.
• تشكيل القضاء العسكري يؤلّف خطراً على الحريات العامة، يجوز، وفقاً لقانون القضاء العسكري، تعيين قضاة عسكريين منفردين من الضباط (م 7 من القانون المذكور)، وُتشكّل محكمة التمييز العسكرية من ضباط عسكريين يرأسها قاضٍ من ملاك القضاء العدلي، أما المحكمة العسكرية الدائمة فتشكل من ضابط عسكري برتبة مقدم فما فوق رئيساً، ومن أربعة أعضاء، أحدهم فقط قاضٍ من ملاك القضاء العدلي، وثلاثة ضباط من رتبة أدنى من رتبة الرئيس. وما يلفت النظر في كيفية تشكيل النيابة العامة العسكرية هو أن قانون القضاء العسكري يجيز أن يقوم أحد الضباط العسكريين المجازين في الحقوق بوظائف مساعد مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وهذا يعني أن حتى تركيبة مفوضية الحكومة لدى المحكمة العسكرية ليست بحتاً قضائية، بل مختلطة، حيث يشارك فيها أشخاص لا يتمتعون بصفة القضاة العدليين. وهذه هي الحال بالنسبة لتشكيل قضاء التحقيق العسكري، مما يعني أنه يمكن إجراء التحقيقات الابتدائية على يد ضابط عسكري مجاز بالحقوق، ما يؤدي من جهة إلى خرق مبدأ استقلال السلطة القضائية، نظراً لتدخل وزارة الدفاع ومؤسسة الجيش في شؤونها وهيكلتها وتنظيمها وتحقيقاتها، وإلى مخالفة المبدأ القاضي بوجوب أن تجرى المحاكمة أمام محكمة عادلة نزيهة وغير متحيزة.
ثانياً: إجراءات المحاكمات العسكرية تحمل اعتداء على حقوق الدفاع وعلى مبدأ الطعن بالقرارات القضائية
إن المحاكمات العسكرية الجارية أمام القضاء العسكري لا توفر الضمانات ذاتها المتوفرة في المحاكمات الجزائية أمام القضاء العادي، لا لجهة احترام قدسية حقوق الدفاع وقرينة البراءة، ولا لجهة حق الطعن بالقرارات الصادرة عن القضاء المعني أمام مرجع أعلى، ولا حتى لجهة الحق في محاكمة عادلة وحضورية، فضلاً عن أن المحكمة العسكرية تُصدر أحكامها بصورة غير معللة خلافاً للقواعد المعتمدة في المحاكم العادية، كما أنَّ هناك عدم مراعاة للأصول المعتمدة في المحاكمات العادية. يضاف إلى ذلك أن قانون القضاء العسكري لا ينص صراحة على حق المشتبه به في التحقيقات الأولية أو المدعى عليه في التحقيق الابتدائي، بأن يستعين بمحام أمام مفوض الحكومة أو قاضي التحقيق العسكري أو الضابطة العدلية، إنما فقط أمام المحكمة (م57). كذلك جاء في الفقرة الثانية من المادة 59 من قانون القضاء العسكري أن لرئيس المحكمة العسكرية أن يمنع المحامي من دخول المحكمة العسكرية لمدة أقصاها ثلاثة أشهر إذا ارتكب خطأ مسلكياً جسيماً قبل المحاكمة أو في أثناء الجلسات. وغني عن البيان أن هذا النص يؤلف اعتداء خطيراً على حقوق الدفاع من جهة، وعلى الحق في ممارسة مهنة المحاماة من جهة أخرى. كما يعتبر هذا الأمر تدخلاً سافراً في شؤون نقابة المحامين التي يعود لها وحدها، وفقاً لقانون تنظيم مهنة المحاماة، حق ملاحقة المحامي ومعاقبته مسلكياً وتأديبياً. وما يزيد في خطورة هذه الإجراءات هو أنه لا يجوز للمحامي الطعن بالقرار المتخذ ضده سوى أمام محكمة التمييز العسكرية أي أمام قضاء عسكري استثنائي.
وعليه، فإن مفهوم القضاء العسكري يُخالف من جهةٍ أُولى، وعلى الصّعيد الدّاخلي، مبدأ مساواة المواطنين أمام المحاكم المكرّس في الدّستور اللبناني (المادة 7)، لا سيّما لناحية مقاضاة المدنيين أمام القضاء العسكري. كما يُخالف مبدأ التقاضي على درجتين، فضلاً عن أنَّ الأحكام لدى المحكمة العسكرية تصدر من دون أيّ تعليل، وهذا كلّه يتعارض مع الحق بالمحاكمة العادلة المعتمد دولياً، لا سيما بموجب نص المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
إلى ذلك فإن تقرير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في دورتها الـ 59 المنعقدة في نيويورك، وبعنوان "ملاحظات ختامية"، يُؤكّد على وجوب تخلّي لبنان فوراً عن اعتماد القضاء العسكري، شأن جميع الدول الديمقراطية، إذ خصّص التقرير المذكور فقرةً كاملةً تحمل الرقم 13 وتتعلّق بالقضاء العسكري اللبناني، أبدت من خلاله اللجنة قلقاً حيال الصلاحية الواسعة التي تتمتّع بها المحكمة العسكرية في لبنان.
وبناء على كل المخالفات التي تمس باستقلالية القضاء التي لم يعالجها كلها مشروع قانون استقلالية القضاء الذي أقرته حكومة نواف سلام كما كان منتظراً، والتي لم نتمكّن من ذكرها كلها هنا نظراً لضيق المساحة، نعتقد أن الدولة اللبنانية لم تغتنم فرصة إقرار مشروع يؤمّن فعلاً استقلالية القضاء ضد كل تدخل سياسي في شؤونه، فتصبح دولة مؤسسات حقيقية تضمن لمواطنيها أبسط حقوق الإنسان، بعيداً عن كل استنسابية أو انتقام أو توظيف سياسي. وطالما أنها لم تفعل، فإن المشروع الذي تم اقراره لا يؤمّن، بصيغته الحالية، فعلاً وبصورة فعّالة، استقلالية السلطة القضائية، أو يضع حدّاً فعّالاً لتدخل السلطة التنفيذية في شؤون القضاء. وهو بذلك لا يشكّل سوى "حقنة مورفين" في جسم قضاء يعاني من مشاكل عديدة أهمها وأخطرها عدم استقلاليته.
(*) أستاذ القانون الدولي الجنائي في جامعة ستراسبورغ- فرنسا
مستشار في المحكمة الجنائية الدولية- لاهاي
محام عام أسبق في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان- لاهاي
محام بالاستئناف