سهى صبّاغ.. المعرض الفني داخل المنزل ليس عرضياً
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
العثور على مسيرة في بلدة مركبافي خطوة جريئة، اختارت الفنانة «سهى صبّاغ» أن تفتح بيتها لا كمجرد فضاء خاص، بل كمساحة عرض وتجربة وتواصل حيّ. لم يكن هذا الخيار فعلاً عرضياً، بل امتداداً عضوياً لرؤية فنية تنطلق من الحميمي، وتذهب مباشرة نحو العلني، من الداخل إلى الخارج، من الذات إلى الآخر. بيتها لم يعد مجرد مكان للإقامة، بل مختبر بصري حيوي، تتجاور فيه تفاصيل الحياة اليومية مع عنفوان اللون وقلق التشكيل.
منذ اللحظة الأولى التي يعبر فيها الزائر عتبة هذا المعرض المنزلي، يشعر بأنه لا يدخل فقط فضاءً بصرياً، بل يعيش تجربة شعورية متكاملة. كل زاوية في البيت، كل ضوء طبيعي أو مصباح، كل ترتيب للوحة داخل النسق البصري هو عرض فني، كتركيب وجداني وفكري يسعى لتذويب المسافة بين الفنانة والمشاهد، بين العمل الفني ومكان ولادته. فهل المعرض الفني داخل البيت هو تذويب الحدود بين الحياة والممارسة التشكيلية؟
المعرض ليس مجموعة لوحات معلّقة على جدران، بل مقترح فني مكتمل هو سردية بصرية نابعة من فكرة أن الفن لا يجب أن يُحجز في صالات بيضاء محايدة، بل أن يعيش بيننا، في الأمكنة التي نعيش ونحلم وننهار فيها. من هذا المنطلق، يصبح البيت ذاته جزءاً من العمل الفني ولكن ليس كديكور، بل كعنصر حيوي في المعادلة البصرية والنفسية.
في هذا الفضاء المنزلي، يمنحنا العمل الفني فرصة نادرة للتفاعل الصادق؛ فاللوحات هنا لا تأتي إلينا مصقولة ومُنمقة ومنزوعة الرسالة، بل بكل توترها الأول، وارتباك اللون، ودفء اليد التي رسمت. وكأننا لا نشاهد النتيجة، بل نشارك في لحظة التكوين.
التعبيرية في أعمال «سهى صباغ» كمرآة داخلية وتجريب بصري، فأسلوبها الفني يمكن وصفه بأنه مزيج بين التعبيرية الحديثة، والتجريب المعاصر في الملمس واللون والخط. إذ لا تسعى الفنانة إلى المحاكاة الواقعية، ولا إلى الجماليات التقليدية. بدلاً من ذلك، تقدّم شكل الإنسان، لا كجسد، بل كحالة داخلية، فالوجه ليس ما نراه فقط، بل ما نشعر به. خطوطها ليست ناعمة أو محكومة، بل غالباً ما تكون حادّة أو طليقة، كأنها تترجم انفعالاً لحظياً. وتوظف الفرشاة بطريقة تُظهِر أثرها الواضح على السطح، فتترك الملمس كثيفاً، أحياناً خشناً، دائم الحركة. اللون عندها ليس تزيينياً، بل حاملاً للشحنة النفسية، فالأحمر يوحي بالاحتدام أو الألم، الأخضر الغامق قد يشي بالكتمان، والأزرق يستخدم كضوء داخلي لا كواقعية بصرية. بعض الأعمال تقترب من التجريد الجزئي، خصوصاً في معالجة الخلفيات أو الشعر أو الكتفين او حتى الأشكال الأخرى المتكونة من خطوط مختلفة وألوان متشظية، حيث تتماهى الأشكال مع محيطها. وتبدو هذه التداخلات اللونية كنوع من الذوبان بين الجسد والذاكرة، بين الشكل والحالة. فهل الأنوثة كحالة، لا كصورة في أعمالها؟
حضور المرأة في أعمال «سهى صبّاغ» ليس حضوراً شكلياً بل وجوداً نفسياً مركباً نرى وجوهاً نسائية، لكننا لا نرى زينة أو استعراضاً مظهرياً، بل حالات شعورية، امرأة في تأمّل، في انكفاء، في مواجهة، في صعود، أو حتى في ضياع. تتنوّع هذه الصور بين ما هو داخلي مغلق وما هو خارجي مكشوف، وبين ما هو ساكن وما هو متوتر. يتكرّر في أعمالها ما يمكن وصفه بـ«الجدلية النفسية»: انقسام الذات، ازدواجية النظر، الانخراط في لحظة كشف أو صراع بين ما يُظهره الجسد وما يخفيه العقل. وهذا يظهر بصرياً من خلال اللعب بين الخلفيات المظلمة والألوان المضيئة، وبين الخطوط المائلة أو المستقيمة، وكأننا نشهد سرداً داخلياً متحركًاً داخل الكادر البصري.
استخدام اللون في أعمالها ليس خاضعاً لقاعدة لونية متخفية، بل أقرب إلى انفعال مباشر مع الحالة. بعض الضربات اللونية تبدو عشوائية لأول وهلة، لكنها تحمل دلالة حركية وكأنها ترسم الزمن اللحظي، أو الأثر النفسي المباشر. هناك حضور بارز للون نفسه ككيان بصري وأحياناً يوضع بكثافة تشبه النحت، فيخرج من سطح القماش وكأنه يريد أن «يقول» شيئاً بملمسه لا بلونه فقط. هذا التوجه يذكّرنا بالاتجاهات الحديثة في الفن، التي تركّز على الفعل الفني كعملية وليس فقط على المنتج النهائي. اللوحة ليست «صورة»، بل أثر عملية شعورية متراكبة، ومعقّدة، أحياناً عنيفة، أحياناً هادئة، لكنها دائماً صادقة. فهل ميل بعض التكوينات إلى الانكماش أو الانفلاش قد يعطي شعوراً بالتضاد والتوازن معاً، قد يكون هذا متعمّداً لتأكيد حالة القلق أو الانكفاء، وهي سمة معروفة في التعبيرية الحديثة؟
لا يمكن قراءة معرض «سهى صبّاغ» دون التوقف عند المفهوم الأهم الذي قدّمته من خلال هذا المعرض وهو الفن ليس شيئاً خارج الحياة، بل نابع منها. هو ليس في صالات العرض فقط، بل في زوايا البيت، في بقايا القهوة على طاولة الرسم، في ارتباك الضوء على الجدار، في أثر يدٍ مرتعشة تبحث عن معنى. فهل معرضها دعوة لتأمّل الفن كحالة معيشة. واللوحات ليست مشاهد تُرى، بل تجارب تُعاش. وبين الداخل والخارج، بين العزلة والانكشاف، ترسم سهى صبّاغ بأسلوبها المميّز فصلاً خاصاً من فصول التعبير الإنساني، الأنثوي، الصادق... بكل تناقضاته وجمالياته وارتباكاته؟