اخبار لبنان

جريدة اللواء

ثقافة وفن

تعبير عن مأساة الإنسان في زمن الحرب في أعمال الفنان أوسكار كوكوشكا

تعبير عن مأساة الإنسان في زمن الحرب في أعمال الفنان أوسكار كوكوشكا

klyoum.com

لا تُظهر «لوحات كوكوشكا» (Oskar Kokoschka) فقط قسوة الحرب المدمرة، بل تُعبّر تعبيرات عن تدهور الروح البشرية في مواجهة العنف. في لوحات مثل «المرأة المنكسرة» و«الحرب»، تظهر الوجوه المليئة بالقلق والألم، مما يعكس التمزّق النفسي الداخلي الذي عاشه الأفراد في تلك الحقبة. فكوكوشكا ليس فقط فناناً يعبّر عن وقائع الحرب، بل كان يُظهر الجانب الوجودي للإنسان في أزمنة الأزمات، حيث كان الصراع الداخلي يتمازج مع الصراع الخارجي. في عالم الفن التعبيري النمساوي، كوكوشكا هو أحد الأعلام البارزة التي لم تقتصر أعمالها على تقديم تجارب جمالية بصرية، بل عبّرت عن معاناة الإنسان وتوتره الداخلي في أقسى فترات التاريخ. فن كوكوشكا ليس مجرد تجريد من الواقع بل هو بحث دائم في الأعماق النفسية للإنسان في مواجهة التحديات الكبرى. وسط عواصف الحروب، والفوضى الاجتماعية، والضياع الشخصي، تركت لوحاته بصمة دائمة في تاريخ الفن الحديث، لا سيما في تصويره المؤلم لتداعيات الحرب العالمية الأولى والتوترات النفسية التي خلّفتها على الأفراد. فهل انتقلت ريشته من التعبيرية إلى الذاتية المحطّمة في لوحاته؟

عُرف كوكوشكا (1886-1980) بتأثيره الكبير على الفن التعبيري، الذي كان يُعدّ بمثابة رد فعل على الأساليب الفنية التقليدية مثل الأكاديمية والرمزية. كان كوكوشكا رائداً في استكشاف الجوانب الأكثر قسوة من الإنسان وحالته النفسية في فترات الاضطراب السياسي والاجتماعي. لم يكن فقط فناناً بل كان أيضاً متأثراً بشكل عميق بمحيطه السياسي، حيث شهد العديد من التحوّلات الكبيرة في أوروبا، وخاصة في النمسا، التي كانت ساحة للأزمات الاجتماعية والسياسية الكبرى. من خلال انغماسه في التوترات النفسية للفرد، ركّز كوكوشكا في لوحاته على القضايا التي شملت الخوف والقلق، وكذلك الصراع الداخلي بين الحياة والموت، الحب والفقد. في زمن كان يعيش فيه الأوروبيون في ظل الكوارث الحربية والتدمير الاجتماعي، أتاح كوكوشكا للمتلقّي أن يختبر هذا الصراع الداخلي من خلال رمزية ووجوه متأزّمة تمثل الإنسان في أزمته.

ما بين الألم والوجود لوحات كوكوشكا تتميّز بألوانها القوية والجارحة، التي تعكس الألم والتوتر الذي عايشه أثناء الحرب. إحدى أشهر أعماله، «المرأة المنكسرة» (1914)، هي تجسيد حقيقي لهذه المعاناة الداخلية. اللوحة التي تُظهر صورة ذاتية له مع عشيقته التي انفصل عنها، تعرض الصراع النفسي والوجودي الذي يعانيه الشخص في مرحلة من مراحل حياته. أما لوحة «الحرب» (1914-1915)، فتمثل واحدة من أكثر الأعمال تعبيراً عن الكوارث التي اجتاحت أوروبا في الحرب العالمية الأولى. هنا، لا تقتصر المعاناة على الجثث والدماء، بل على الأثر النفسي الذي تركته الحرب على الإنسان، حيث يتم تصوير الجنود وهم في حالة من الهلوسة والارتباك، تماماً كما لو كانت حيوات هؤلاء الأفراد قد تحطّمت تماماً بفعل العنف المتواصل.

في بعض لوحاته الأخرى، مثل «المنظر الداخلي», يعبّر كوكوشكا عن التأثيرات النفسية للحرب على البشر، مع التركيز على الاضطرابات الداخلية العميقة التي تسببت بها التجارب المدمرة. هنا تبرز الوجوه الممشوقة بالخطوط الحادّة والألوان المتناقضة، مما يجعل من الصعب على العين المكوث طويلاً أمام تلك الأشكال المشوّهة دون أن يشعر المرء بتأثير الصراع داخل هذه الأرواح المحطّمة.

إن أحد أبعاد فن كوكوشكا الأكثر إثارة هو اهتمامه بالعلاقة بين الحب والحرب. ينعكس هذا بشكل خاص في العلاقة المضطربة مع عشيقته، الأديبة النمساوية ألما ماهلر، التي كانت شخصية محورية في حياته. يعتبر العديد من النقاد أن معاناته العاطفية كانت تشكّل دافعاً رئيسياً وراء العديد من أعماله، حيث كانت العلاقة المشبعة بالتوتر والحب الممزق محوراً في فن كوكوشكا. في كثير من اللوحات، تلتقي هذه العلاقات العاطفية الشخصية مع التفجيرات العنيفة للحرب، حيث تصبح العلاقات العاطفية والأزمات الذاتية متشابكة مع تأثيرات الحرب.

في رواية «ليلة لشبونة» للكاتب إريش ماريا ريماك، نجد بطلاً يعاني من التأثيرات النفسية العميقة بعد الهروب من بلاده، ويواجه جروحاً نفسية وجسدية تذكّرنا بتلك التي صوّرها كوكوشكا في لوحاته. مع كل لحظة صراع داخلي، يتداخل الأمل مع اليأس، تماماً كما كان الحال في أعمال كوكوشكا، حيث تندمج الألوان الجريحة والأشكال المتصدّعة لتعكس التمزّق البشري في الزمن الحربي. فهل الفن التشكيلي كأداة للتعبير عن الوجود هو ما يميّز فن كوكوشكا؟ وهل قدرته الفائقة على التقاط لحظات الأزمة الإنسانية والتعبير عنها من خلال تفاصيل حادّة، وألوان متضاربة، وأشكال تعبيرية تتحدّى البنية التقليدية للفن؟

لقد أصبح من خلال أعماله أحد الأصوات البارزة التي تعكس مأساة الإنسان في ظل الأزمات الكبرى، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو نفسية. كان كوكوشكا يرفض العيش في الأوهام، بل كان يصرُّ على كشف القبح الذي يواجهه الإنسان في صراعاته الوجودية. إذ يمكن اعتبار كوكوشكا واحداً من أعظم الفنانين الذين استطاعوا تحويل معاناته الشخصية والإنسانية إلى لغة بصرية قوية قادرة على التأثير العميق في المتلقّي. في كل لوحاته، كان الفن عنده أكثر من مجرد شكل جمالي، بل هو وسيلة للتعبير عن ألم الإنسان في زمن الحروب، ليظل فن كوكوشكا شاهداً على مأساة الحرب، وجمال التمرّد الإنساني ضد العنف والدمار.

*المصدر: جريدة اللواء | aliwaa.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة