اخبار لبنان

جريدة اللواء

ثقافة وفن

متصرفية جبل لبنان في الأرشيف العثماني (1861–1918): مراجعة تحليلية لكتاب الدكتور أحمد حطيط

متصرفية جبل لبنان في الأرشيف العثماني (1861–1918): مراجعة تحليلية لكتاب الدكتور أحمد حطيط

klyoum.com

صدر للمؤرخ والباحث الدكتور أحمد حطيط كتابا جديدا عن مؤسسة التراث الدرزي، بعنوان «متصرّفية جبل لبنان في الوثائق العثمانية 1861 - 1918م». والكتاب من قسمين: القسم الأول هو دراسة وثائقية لقضايا سياسية وإدارية وأمنية واقتصادية وتربوية واجتماعية تعود الى زمن المتصرّفية. توزعت الدراسة على ثلاثة فصول، إضافة إلى مقدمة وخاتمة، فيما اختص القسم الثاني بتحقيق نصوص وثائق عثمانية غير منشورة، مستخرجة من دائرة الأرشيف العثماني في رئاسة الوزراء التركية باستنبول، تعود، بمعظمها، إلى النّصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، باستثناء وثائق منها يتناول بعضها حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام وعلاقته بالأمير بشير الثاني الشهابي وعبد لله باشا والي عكا، ويختص بعضها الآخر بالعقدين الأولين من القرن العشرين.

جاء في مقدّمة الكتاب أنّه بعد مضي قرن وأربعة وستين عاما على إنشاء متصرّفية جبل لبنان، لا تزال ملابسات قيامها والأحداث الدامية التي سبقت ولادتها، بين قطبي جبل لبنان الدروز والموارنة، موضوعا شائكا يكتنفه الغموض، رغم كثرة تناولها في كتب التاريخ، حيث أجريت عدة بحوث ودراسات للوقوف على ظروفها التاريخية ومقاربة حقائقها؛ فتوزّع كثرة من الدارسين بين مؤّيد لهذا الفريق أو ذاك، وصار مضمون الرّوايات يتأرجح بين الطرفين مانحا صفة الضّحية لأحدهما من دون الآخر، على قاعدة الانحياز وترجيح الرّغبات والميول.

لذلك، لم يكتفِ د. حطيط باستعراض الظّروف التاريخية، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على وجه الخصوص، التي أسهمت في قيام نظام متصرّفية جبل لبنان، وتمتّعه بقسط وافر من الاستقلال الذاتي، فحسب، بل عمد، أيضا، إلى معاينة هذه الظروف واستقرائها وإخضاعها للنقد والتحليل، بالعودة إلى الأصول.

لقد حاول الباحث في كتابه هذا الإجابة على جملة من التساؤلات المتّصلة بماهيّة متصرّفية جبل لبنان وخلفياتها وملابساتها، بما هي أسباب عميقة، داخلية وخارجية، لتحوّلات سياسية ومجتمعية وثقافية، أدّت، وفق مسار تطوّري، إلى نشوء كيانات سياسية عرفها جبل لبنان، بدءا من الإمارتين المعنية والشهابية ونظام القائمقاميتين، وصولا إلى نظام المتصرّفية الذي شكّل اللبنة الأساس لإنشاء دولة لبنان الكبير، عام 1920م، والوقوف على ما استبطنت تلك الكيانات من عيوب بنيوية، متأتية من طغيان الطابع الطّوائفي/ السياسي على أنظمة الحكم في جبل لبنان، ظهرت معالمها بوضوح منذ عهد القائمقاميتين، عام 1842م، حين قسّم جبل لبنان إلى كيانين طائفيين مصطنعين تمّ الاعتراف بهما بإرادة سلطانية ومباركة دولية، مسوّغين بنصّ رسمي عرف بـ«ترتيبات شكيب أفنديّ»، في 15 أيار 1846م، قيل إنه كان حلّا وسطا توصّل إليه الفرقاء الدوليون مع الدولة العثمانية، على أثر أحداث الجبل بين عامي 1831م و1845م. لكن النزاعات سرعان ما استعرّت في الجبل بسعي من الدول الأوروبية المتنافسة على أملاك الدولة العثمانية، حيث جهدت كل منها على استمالة الجماعات السكانية اللبنانية، ودعمها بالمال والسّلاح، وبثّ روح الفتنة فيما بينها، عبر دبلوماسييها، من سفراء وقناصل، وعبر الإرساليات الدينية التابعة لها، في ظل تواطئ مريب من العثمانيين، ليتفاقم التوتّر بين طوائف جبل لبنان، وبخاصة بين الدروز والموارنة، ما أدّى اضطرابات وفتن أهلية دامية استمرت حوالى عشرين سنة. فتدخّلت الدول الأوروبية «لإعادة الأمور إلى نصابها»، وتوصّلت، بالاتفاق مع الباب العالي، إلى إعادة توحيد جبل لبنان، بإقرارها نظاما سياسيا جديدا عرف بـ«نظام المتصرّفية»، شهد الجبل فيه سلما نسبيا، كان ثمنه نفوذا بارزا حازته الدول الأوروبية الراعية للنظام الجديد وصلاحيات واسعة للمتصرّف العثماني.

وهكذا استقرّ جبل لبنان مجتمعا متعدّد الطوائف يتمتّع باستقلال ذاتي؛ فكان لذلك تأثيره الكبير في رسم معالم المرحلة السياسية القادمة، كانت المتصرّفية المحرّك والنموذج فيما يتصل بتوزيع السّـلطة على طوائف لبنان، بعد ضم بيروت والأقضية الأربعة إلى الجبل بقيام دولة لبنان الكبير. واشتدّ نتيجة ذلك التنافس بين الطوائف، ما أسهم، ولا يزال يسهم، في تعميق الشّرخ والانقسام بين اللبنانيين؛ فتعذّر عليهم بناء وطن سيّد حر مستقل، وإعداد مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات، وتحوّلت الطوائف من طبيعتها الدينية إلى أطر سياسية ذات دور مؤثّر في حكم البلاد، على قاعدة محاصصات مذهبية مقنّعة بـ«ديمقراطية توافقية» كرّست في «وثيقة الوفاق الوطني» التي أقرّها النواب اللبنانيون المجتمعون في الطائف، عام 1989م، من أجل إنهاء «حرب لبنان 1975»، والتأسيس لمرحلة وطنية جديدة، لتصبح تلك الوثيقة الدستور اللبناني الجديد في 3 أيلول 1990م.

بجدارة الباحث المدقّق، وحرص المؤرخ النزيه، يقدّم لنا الدكتور أحمد حطيط عملاً علمياً رصيناً يعيد قراءة تجربة متصرفية جبل لبنان في ضوء الوثائق العثمانية الأصلية، لا بوصفها محطة عابرة في تاريخ الجبل، بل كمفصل تأسيسي لفهم البنية السياسية والطائفية التي رافقت نشأة الكيان اللبناني الحديث.

لقد استطاع المؤلف، في هذا الكتاب المهم، أن يجمع بين الدقّة المنهجية في قراءة الوثيقة، وعمق التحليل التاريخي لمسارات الحكم والسلطة والمجتمع في جبل لبنان بين منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وما يُضفي على هذا العمل قيمة علمية مضاعفة، هو الجهد التوثيقي الفريد بتحقيقه لوثائق عثمانية غير منشورة، واستنطاقه نصوصها بلغتها وسياقها، بما يكشف عن طبقات خفية من التاريخ قلّما نفذت إليها الكتابات المعاصرة.

إنه كتاب لا يكتفي بتسجيل الوقائع، بل يسائلها، ويُعيد تأويلها، ويضعها في إطارها العثماني والإقليمي والدولي، رابطاً بين ما جرى في زمن المتصرفية، وما تلاه من تطورات بنيوية انتهت إلى دولة الطوائف التي رافقت نشأة الكيان اللبناني الحديث.

تحية تقدير للباحث الدكتور أحمد حطيط، الذي أهدانا هذا السفر القيّم، وأثبت مرة أخرى أنّ الوثيقة حين تُقرأ بعين الناقد وأدوات المؤرخ، تُضيء الماضي وتفسّر الحاضر، وتعين على تخيّل مستقبل مختلف.

*المصدر: جريدة اللواء | aliwaa.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة