اخبار لبنان

جريدة اللواء

ثقافة وفن

صوت نادر غادا محمد فؤاد السمان

صوت نادر غادا محمد فؤاد السمان

klyoum.com

في عالم تزداد الفوضى فيه، ويزداد الضجيج، ويعمّ الاضطراب، فحياة الإنسان البريء قد تسلب في أي وقت مما يجعل اتجاه العالم نحو المجهول حيث تفقد الحكمة، وتتلاشى البصيرة أمام الظلم والظلام، وتفرض العتمة طغيانها، ليكون الإنسان يعيش بين الوهم والحقيقة، إذ ان كل شيء في تبدّل وتغيّر، لإلغاء أي علامة للحياة كما لو ان الإنسان قد استسلم لقوة غير مرئية تهتك كل ما هو جميل في هذه الدنيا حيث يوحي بالرهبة والفزع في هذه الضجة البشرية المروّعة المدوية التي تتخذ صيغة الموت أشبه بقرع طبول صداها يأتي من بعيد أو من قريب.

هنا يظهر لنا صوت نسوي مثابر نادر صادق يفيض قلبه بالتناغم مع الألوان وصدح الطيور كأنه يترنّم بنغمة روحانية مليئة بعاطفة جيّاشة إزاء هذا الكون، وإزاء جميع الكائنات في كوكب الأرض لان هذا الصوت يتدفق من القلب، فيكون احساسا وجدانيا بلغة رشيقة شفافة فيه إجابة واضحة لما يحدث يثير الفضول وينعش الذاكرة، ويلفت الانتباه في تفاهم صامت لكل من يسمعه. نعم، هذا هو صوت الشاعرة والإعلامية غادا محمد فؤاد السمان، فهو هاديء كالحقيقة، وبريء كالقدر، ونزيه كنجمة ساطعة كلما زادت عتمة الليل، يستوطن الذهن حين يسمعه المرء بملامح شاردة يبغي أن يتفاعل معه في لحظة استثنائية حاسمة تغرق ذهنه كي يحاول الوصول في بحثه عنه إلى لغز الوجود، فقد حدّد هذا الصوت الاغتراب الذي يعانيه الإنسان في هذا الكون بقصيدة نثرية متناسقة ذات أبعاد في وحدة جوهرية تحدد وتوصف بها هذا الواقع المعاش:

(في عالمنا المتوحّش هذا...

لا تبحث عمن يساندك

لن تجده أبدا..

ابحث عمن يقتلك

فهو في الخدمة.. دائما.)

لكن هذا الصوت له صدى ذبذبات أشبه بعزف مريح تجعل المرء أيضا يحيا توافقيا مع حسنه الخالص في جوهر الروح لما فيه من تناسق جمالي في وهلة زمنية تسرّ الاحساس حيث فيه كذلك انبثاق يتولد من جذوة إيقاع بضوء خفي كما لو ان هناك أنشودة تنعش الذات في تناظر مع الكلمات لتواصلها النغمي الملوّن بألوان ساحرة تلغي الضوضاء والخشخشة والقرقعة كاستجابة حسّية، تكشفها الحواس الكامنة داخل النفس بدلالة عميقة، تفضي إلى مشاعر كونية تجعل الظلام يصبح نورا، حين تقول غادا في قصيدتها النثرية:

(من قال: أن الوردة،

تذبل مع الوقت؟

بدل ذلك الاجتهاد الفضفاض،

امنحها ذاكرة حيّة وستبقى،

نضرة كما تعرفها على الدوام)

هذا. وان البُعد الزمني ما زال تأمّليا في تتابعه المكشوف سواء في استعادة الذاكرة او الكشف عنه بالكون الأرضي في واقعيته، في طوله أو قصره، فهو لم يكن إلّا إعادة صياغة بتركيز وانتباه، بوضوح ودقّة، وبسعي وتحفيز. هذا ليس ارتباكاً في الحواس بقدر ما هو عزف في نمط آخر، ورحلة هادئة في إدراك الذات، وتشكّلها روحيا في الحب الإلهي الذي هو يعكس الهوية الحقيقية في هذا العالم، وهو اعتراف الذات بالوعي الكوني أيضا، ويقظة سلام عميقة رغم المعاناة لان الشاعرة غادا تلوذ في أعمق أعماق الذات، وتحيا الحياة من القلب، لتكون بوابة الروح إلى هذا الحب الإلهي الذي نمسك حلقته في قصيدتها:

(أرتدي البحر وشاحا

واغمس روحي في أعماقه

كمحبرة غاضت بكلمات ربي،

وفاحت بزرقة سماء

أوصدت أرجاءها

إلا من كل قاصد ومرتجي)

القصيدة لدى غادا صوت يجسّد غاية عليا، تنبع من وطأة الشقاء الذي يحيط بها في عالمنا المعاش، تبلغ فيه التأمّل الفلسفي حيث كلماته تلامس القلب بإحساس صادق لحظة بلحظة، لتفسير سر الوجود البشري. هذا يفيض بالوداعة واللطف، ويقال ان من يحب الكون يعاني ويتألم لشجرة تقطع. نعم، هذا نجده في الغوص التأمّلي لقصيدة غادا حيث النور الإلهي، وأسرار الجمال الكوني، ولذة الروح حين يسود السرور كي يفيض الكون بأريجه، وسحره الجذاب، ونعمته التي يتذوقها كل قلب رحيم مهما عصفت الدهور بألغاز الظلام.

عينا غادا مثبتتان نحو بُعد تتلاقى فيه السماء والأرض، البحر والصحراء في خط نهائي ليكون الأفق، وهي تواجه الظلام بنور أشعة الشمس. هذا ما زرعته في قلبها الذي ما زال يزهر فيه أشبه بوحي حلم وجداني ترى فيه الحياة، إذ كل ما تريده غادا أن تغمر هذا العالم بفيض مشاعرها الصادقة، لتكون كلماتها بين الحلم والحقيقة، فصوتها يعلو وسط المعاناة، والصمت المؤلم. أجل، صوتها ينساب بلطف، مثيرا للفضول والانتباه، لذلك كلماته متقنة بدقّة متناهية، ليتجلّى بريادته من خلال الكلمات المعبّرة، يصبو إلى عالم جميل في مقصده ومعناه، ويسهم نورانيا بنهضة حضارية تنتمي إلى الحداثة المتجددة في ارثها الإنساني، فصوتها تأمّلي، متشكّلا في لغة راسخة بالمعرفة الشمولية والإبداع.

أخيرا لا بد من القول ان غادا محمد فؤاد السمان مبدعة متألقة، وإعلامية متميزة حيث يتشكّل عندها منهج فكري خاص بها كروءية متجددة للعالم، والواقع العربي المعاش، وهذا ما نلمسه من خلال متابعاتنا لمقالاتها ودراساتها خاصة قصائدها ذات منحى الحداثة التي فيها عوالم متعددة وأصوات متعددة تدعو الى الجمال والخير للارتقاء بالحياة والوجود الى سمو العيش، فكلماتها معبّرة أنيقة بلغة انسيابية متسقة، ولا تخلو قصائدها من فكرة إنسانية رائعة بل تزيدها وتعمّقها... غادا صريحة صادقة في ممارستها النقد لان لديها حس حنون طيب في محبة وطنها، وهي أيضا ترتقي الى عالم يساهم من أجل إرساء الكلمة الحرّة المستقلة، لذلك فهي من جيل عاش ويعيش معاناة الشعوب العربية، ويتألم لها... غادا من سماتها التعبير المباشر النبيل الذي لا يحتاج الى غير ذلك لان واقعنا يحتاج الى ذلك... لك سيدة غادا دوام النجاح والتوفيق في مواصلة الإبداع الجميل، ودمت في مساعيك في إرساء الوعي الإنساني والثقافي من أجل الناس بغية أوطان سعيدة حرّة، ودمتِ بألف خير.

د. حمودي عبد محسن/ روائي سويسري من أصل عراقي

*المصدر: جريدة اللواء | aliwaa.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة